بقلم - د. محمود خليل
الله تعالى أعلم بالسرائر، لكن كل ما يُروى عن أبى سفيان من مشاهد بعد فتح مكة يدل على أنه آمن إيماناً سياسياً، فكونه شهد ألا إله إلا الله، فقد بدا فى ذلك مثل قومه الذين شهد لهم القرآن بأنهم يعلمون أن الله هو خالق السماوات والأرض، وأنهم اتخذوا أصنامهم زلفى إلى الله. وينص القرآن على ذلك فى قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ». وكان أبوسفيان -مثل قومه- يقر بأن الله هو خالق البشر: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ».
ومنطق الأشياء يقول إن أبا سفيان الذى مثَّل واحداً من كبار المؤثرين فى قومه كان أشد تأثيراً على ولده الأثير «معاوية»، وقد كان ولده مثله من «حزب الطلقاء» وهو الحزب الذى تبوأ موقعاً أدنى بعد فتح مكة، التى سادها حزب السابقين من المؤمنين الأولين، وكان «الطلقاء» يعلمون أن تأخرهم عن الانضمام إلى ركب الرسول صلى الله عليه وسلم، سوف يعرقل أى طموح عاجل فى العودة إلى مركز السيادة السياسية على قريش كما تعودوا.
ويروى «ابن عبدربه» -صاحب العقد الفريد- أن «معاوية دخل على أبيه حين استعمله عمر رضى الله عنه على الشام، فقال له أبوه: يا بنى إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقصَّر بنا تأخرنا، فصرنا أتباعاً وصاروا قادة، وقد قلدوك جسيماً من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجرى لأمد لم تبلغه، ولو بلغته لتنفست فيه».
كلمة «الأمر» تدل على «الحكم والسيادة» أكثر مما تدل على «الدين والإيمان»، وتؤكد نظرة أبى سفيان -التى تبناها من بعده معاوية- إلى المسألة أنها سباق نحو الملك، وأن الفرصة لم تسنح بعد، ليتسيَّد بنو أمية المشهد بسبب تأخرهم عن الدخول فى الإسلام، وأن «معاوية» مطالب بألا يستبق الأحداث، وأن ينتظر لحظة تأتيه يستطيع أن يتنفس فيها على مقعد السلطة بصورة كاملة.
وتشهد الأحداث التاريخية التى توالت بعد ذلك أن معاوية كان يفهم الأمر، ويستوعب الرحلة التى يجب أن يخوضها، والخطة التى يجب أن يسلكها حق الفهم. وقد استطاع أن يجعل من الشام قاعدة انطلاق له نحو ملك العرب، وعاصمة للخلافة بعد أن ظفر بها.