بقلم - د. محمود خليل
فى اللحظة التى اطمأن فيها الرئيس أنور السادات إلى القضاء على خصومه من رجال الحكم فى عهد عبدالناصر، ممن كان يصفهم بـ«مراكز القوى»، بدأ مباشرة الحديث عن «أخلاق القرية».
يتجلى هذا الأمر بصورة واضحة فى خطاب الرئيس فى 20 مايو 1971 (خطاب ما أسماه بثورة التصحيح)، فقد تناول فيه موضوع إصدار الدستور الدائم للجمهورية، وطلب من أعضاء اللجنة المسئولة عن صياغته استلهام «أخلاق القرية» فيما سيشتمل عليه من بنود.قال «السادات» فى هذا الخطاب: «عايز وإحنا بنحط الدستور نرجع للقرية أصلنا ونعرف إن فيه عيب، لأن فى القرية علمونا ونشّأونا إن فيه حاجة اسمها عيب، احنا نعرف كلنا لما نبقى عيلة فى القرية، وبنعرف كمان إن القرية كلها بتبقى روح واحدة، إحنا نعرف كلنا لما تبقى العيلة فى القرية، رب العيلة فيها راجل حازم تبقى العيلة محترمة، عايز الدستور يتفصل على كده، يتفصل علشان مصر كلها تبقى قرية واحدة فى هذا الشأن».
توجّه «السادات» نحو النظر إلى مصر كقرية كان واضحاً منذ اللحظة الأولى لتوليه الحكم، وربما يكون الرجل قد استلهم الفكرة من الآية القرآنية من سورة «يوسف» التى تصف مصر بالقرية: «واسأل القرية التى كنا فيها»، لكن من منظور مختلف، فالقرآن كان يصف تجمعاً بشرياً ملتئماً حول مجموعة من المصالح المتفق عليها، أما «السادات» فكان يرمى -كما يؤشر حديثه- إلى «ترييف مصر ككل» وتمثل قيم القرية المصرية فى نظام الحكم، وأبرزها احترام الكبير -الذى هو رئيس الدولة- والنظر إليه، مثلما ينظر الأولاد إلى «رب العائلة»، وأن واجب الأولاد نحوه هو السمع والطاعة لأنه الأدرى بمصالحهم.
مسألة «العيب» مثّلت أيضاً جوهراً من جواهر حديث «السادات» عن أخلاق القرية، ولا عيب أكبر من الإساءة للكبير رب العائلة. وقد ترجم «السادات» فكرته بإصدار قانون حماية القيم من العيب عام 1980.
وفى حوارات عديدة مسجلة كان «السادات» شديد الحرص على التأكيد على قيم القرية المصرية، ويحذر محاوريه من العيب، وذروته عدم احترام الكبير رب العائلة.
كأن «السادات» قد أراد أن يؤسس حكمه على شرعية جديدة هى «شرعية القرية» ضد «أفندية المدينة» الذين تشكلت منهم المعارضة، وخصوصاً من اليساريين والناصريين والقوميين، وحتى حالة القرب بين السادات وبين الجماعات قد يجد جانباً من تفسيره فى هذا التوجه، خصوصاً أن الإسلاميين -وعلى رأسهم جماعة الإخوان- سيطر عليهم مبدأ «الترييف» الذى يصف «حسام تمام» -رحمه الله- مؤشراته قائلاً: «شهدت جماعة الإخوان سيادة ثقافة ريفية تخالف ما نشأت عليه، ثقافة تتوسل بالقيم الأبوية، حيث الطاعة المطلقة والإذعان للمسئول التنظيمى، وانتشار ثقافة الثواب والعقاب، والتخويف حتى فى العلاقات التنظيمية، وسيطرة الخوف من المختلف أو المتميز، مع الميل للركون إلى التماثل والتشابه بين أعضاء الجماعة التى صارت تميل يوماً فيوم إلى التنميط!».
والمدهش أن أصحاب نظرية «الترييف» وقعوا فى بعضهم البعض فيما بعد، حين انقلب الإسلاميون على «السادات» الذى منحهم فرصاً ضخمة للسيطرة على الشارع الحضرى، عقب إبرامه معاهدة السلام، وتلكؤه -كما زعموا- فى تقنين الشريعة الإسلامية، وانقلب عليهم «السادات» بسبب معارضتهم لهم، فكان ما كان فى أكتوبر 1981.