يشعر "آدم الحفيد" أن دائرة ترتسم حوله.. وصوت يطلب منه ألا يفر خارجها.. تذكره بلعبة الدائرة التي قرأ عنها على الفيسبوك.. يظل الشخص يلف ويلف داخل دائرة لا يعرف أولها ولا يعرف آخرها.. فقط يلف.. يقول له جده: كل نفس ولها دائرتها ولا يملك صاحبها إلا أن يلف ويدور فيها.. وأخطر اللحظات لحظة الخروج.
جدي "الترجمان" ظل يلف داخل دائرة نفسه.. لم يكن يستطيع أن يغادرها.. رفع عرضحال إلى الوالي محمد علي يشرح فيه ما حدث من فريق "تعداد النفوس" في شارع النحاسين.. وحقق الوالي في الأمر وحكم بالجلد على البصاصين وشيخ الحارة والكاتب المسئول عن تزوير التعداد، وعنّف المدير التركي سليمان باشا أشد التعنيف لكنه لم يوقفه عن العمل.
غضبت زوجة الترجمان عندما حكى لها ما حدث وأنبته قائلة:
- الزوجة: مالك أنت والبصاصين ومشايخ الحارات.. هل تظن نفسك الوحيد الذي يملك لساناَ يرطن أو ذاكرة تحفظ الحساب؟
- الترجمان: هل تتوقعين مني أن أصمت وانا أري مال الوالي يسرق؟
- الزوجة: الوالي يسرق الناس.. والبصاص وشيخ الحارة والكاتب يسرقون مثله.. إنهم يأخذون الفتات مقابل تلال الأموال التي يجمعها الوالي.
- الترجمان: الوالي يحفر الترع.. ويختط الشوارع.. ويزرع.. ويبني مصانع بهذا المال.
- الزوجة: إنه يفعل ذلك من أجل نفسه وليس للناس.
- الترجمان: وهل سيأخذ الترع والزرع والمصانع والطرق معه عندما يقف أمام الحسيب؟.. المهم أريد أن أحدثك في موضوع آخر.
- الزوجة (بضجر): خيراً!.
- الترجمان: جاءني اليوم عز الدين الألفي المملوك الذي نصحني بالعمل كترجمان بالقلعة.
- الزوجة: رجل أصيل.. ماذا يريد؟
- الترجمان: طلب مني أن أتكلم له مع أحد رجال البلاط حتى يصدر الوالي فرماناً بمنحه عدة أرادب من القمح يتاجر فيها على أن يدفع ثمنها بالأجل.
- الزوجة: وماذا في ذلك؟
- الترجمان: لا شىء.. الوالي يفعل ذلك.. لكنني أخشى ألا يسدد كما يفعل بعض التجار.
- الزوجة: لا حول الله.. هل هذا جزاء معروفه معك؟.. لقد قلت بعظمة لسانك أن الوالي يفعل ذلك مع غيره.. تريد أن تمنع الخير عنه.. تريد أن تكون "مناع للخير"؟.
يصمت آدم الجد.. ثم يقول: "رحمك الله يا جدي.. أكلته المرأة".. فيرد عليه الحفيد ضاحكاً: أكلته وهضمته وأخرجته.. لم يكن "الترجمان" يعلم أن المملوك الماكر يراقبه منذ فترة ويرتب للأمر.. وحتى الأزمة التي أثارها الترجمان في النحاسين وعرض الحال الذي قدمه للوالي كان على علم بهما.. فقد كان صديقاً لأحد البصاصين الذين نالهم الوالي بالعقاب.
استجاب "الترجمان" لزوجته، وتوسط لعز الدين الألفي ونال مطلوبه وأكثر.. وكانت زوجته تتابع معه أخبار المملوك وتتوقع أن ينفح زوجها مبلغاً معتبراً من المال جزاء معروفه.
وبعد أن طال انتظارها للعطية حدثت "الترجمان" يوماً قائلة:
- الزوجة: لابد أن تطلب حقك من المملوك.. أنت سبب الخير الذي يجري بين يديه الآن.
- الترجمان: أي حق لي؟.. هل آخذ مقابل المعروف.
- الزوجة: يا رجل اتق الله.. "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان".. صدق الله العظيم.
- الترجمان: صدق الله العظيم.. وكذبت.. اصمتي يا امرأة واتق الله.
- الزوجة (ساخرة): ليس لديك ما ترد به.. قم واستعد لنخرج.
- الترجمان: إلى أين؟.
- الزوجة (ضاحكة): أريد أن أرى الطفل الذي ولد بوجه فيل.
- الترجمان (باستغراب): طفل بوجه فيل؟!.
- الزوجة (تواصل الضحك): ولدته امرأة قضت شهور الوحم في الفُرجة على الفيل في "بركة الفيل" فولدت طفل بوجه فيل.. قم قم.
يضحك "آدم الصغير" ضحكة مخلوطة بالسعال.. ويتخيل صورة الطفل الذي أتى الحياة بوجه فيل أو رأس حمار.. وكيف وضعها على صفحته على الفيس.. وتعليقات أصدقائه الكوميدية عليها.. ثم يقول لجده:
- الشاب: عالم دماغها ضايعة.
- الشيخ: الناس يا ولدي ترى الواقع بخيالها.. "فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى".. يكفي أن توحي إليهم بأمر غير موجود ليزعم لك كل منهم أنه رآه رأي العين.. الناس ترى ما تحب أن تراه.
- الشاب: يا جدي.. أكيد هذا الطفل "متركب" مثل الصور التي نركبها على السوشيال ميديا.يصمت الجد قليلاً ثم يقول: كل عصر وله خيالاته.. والويل للإنسان من الواقع.