بقلم - د. محمود خليل
الحياة داخل أحياء القاهرة القديمة منتصف السبعينات وما بعدها بدت عشوائية على مستوى الشكل، بيوت قصيرة وأخرى متطاولة، غرف متداخلة، فواصل ضيقة ما بين البيوت، تستطيع أن تسلم على جارك من شرفة البيت، بيوت تتوافر بها المرافق، وأخرى تغيب عنها، لكن فى المقابل كانت الحياة شديدة الانتظام على مستوى المضمون، حيث تلتحم نمنمات البشر فى لوحة «موزاييك» تشد النظر، وتدعو إلى التوقف والتأمل.
كل نقطة من نقاط اللوحة ترقد إلى جوار شقيقتها فى أنس وألفة واتساق، وتتكامل مجموعة النقاط فيما بينها، ليبدو المحتوى منتظماً، رغم عشوائية الشكل والمساحة التى تحتلها كل نقطة. فأسهل شىء بالنسبة لأى فرد عاش هذه الأجواء هو الاندماج والتكامل مع غيره، ليرفع الجميع شعار: «يمكن إذا حسنت النفوس أن يأكل العشرات فى طبق واحد»، و«الأكل يحب اللمة»، و«الناس لبعضيها»، و«النبى وصى على سابع جار»، و«الجنة من غير ناس ما تنداس»، وغير ذلك.شتات من البشر كانوا يأخذون شكلهم أو مسارهم المنتظم فوق سطح اللوحة، والقاسم المشترك بينهم هو الاندماج والتقارب الذى يصل إلى حد الالتصاق: كبار وصغار، متعلمين وحرفيين، رجال ونساء، معدمين ومساتير، قاهريين وريفيين.
بإمكانك أن تجد نموذجاً على الأطياف البشرية التى جمعتها لوحات الأحياء القديمة فى روايات نجيب محفوظ، وقد كان -رحمه الله- من المغرمين بوصف البشر العائشين فوق ترابها.فى رواية «خان الخليلى» على سبيل المثال تجد الحى يجمع بين عاكف أفندى الموظف المحال للمعاش، وأحمد أفندى عاكف الموظف بوزارة الأشغال الذى لم يكمل تعليمه الجامعى، والأسطى «نونو» الخطاط، وغيرهم.
وفى رواية «زقاق المدق» تجد لوحة جديدة لبشر بينهم: عباس الحلو الحلاق، وحميدة الفتاة المتمردة، وعم كامل بائع البسبوسة، والمعلم كرشة صاحب المقهى، وولده حسين الذى يعمل فى «الأورنص»، وزيطة، والدكتور بوشى، وأم حميدة الدلالة، وغيرهم.
وعلى ما كان بينهم من تناقضات وما ميز حالتهم المعيشية من عشوائية، إلا أنهم شكّلوا حال تجمعهم معاً لوحة لا تخلو من تناغم.السمة الأساسية التى جمعت بين البشر داخل هذه الأحياء تمثل فى «الرضا». فأغلبهم كان راضياً عن حياته، رغم ما فيها من عنت وتعب، وإرهاق وحرمان، لكن ذلك لم يكن يعنيهم، بسبب نظرتهم الإيمانية بأن «الحياة دار شقا»، و«إحنا أحسن من غيرنا».
ويعتبرون التمرد على «العيشة» سلوكاً مقيتاً، وهم لا يتركون المتمرد، بل يحاولون رده إلى جادة الصواب، حتى ولو دفعوا حياتهم ثمناً لذلك، كما فعل «عباس الحلو» مع «حميدة» فى «زقاق المدق».مثّل «الإحساس بالرضا» الدافع الأول لمواصلة الحياة لدى أغلب من يعيشون فى هذه الأحياء. كانت عبارة «ما تتبطرش ع النعمة» أساس تربية كل أب وكل أم لأولادهما.
فنعم الله فى نظر بسطاء هذه الحقبة عديدة، حتى ولو كانت «عيش ودقة»، أو أى «لقمة» أخرى «هنية تكفى مِية»، أو النوم ملء الجفون، أو العافية والقدرة على الكدح، أو الجيرة الهادئة، أو الصداقة المخلصة، وغير ذلك كثير.. والرضا لمن يرضى.