بقلم - د. محمود خليل
«أزمة انتماء» كبرى نشبت بين محمد صلى الله عليه وسلم وقومه بعد أن بعثه الله بالحق نبياً ورسولاً. فقد تعجب أهل مكة أن يخرج رجل منهم «من أنفسهم» ليصحح إيمانهم ويدعوهم إلى «عقيدة التوحيد».
يقول الله تعالى: «أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ». أنكر العرب على محمد دعوته وطرحوا سؤالاً عن انتمائه إلى ثقافة المكان التى راكمها الآباء والأجداد، وهى ثقافة متحلقة حول فكرة «الوثنية»، ورفع الأصنام فوق البيت الحرام، والتباهى على العرب بوجوده فوق تراب أرضهم، وموسم الحج الذى يرتبط به، ودوائر المصالح التى تبلورت حول هذه الثقافة، يضاف إلى ذلك حالة الانطلاق السلوكى -التى تصل إلى حد التفلت- والتى تكرست عبر ثقافة الآباء والأجداد، فأباحوا لأنفسهم استعباد البشر، ووأد البنات، ومعاقرة الخمر، وإتيان صاحبات الرايات الحمر، وغير ذلك من مفاسد.
وقد تضخم السؤال حول «انتماء النبى» لدى أهل مكة، حتى احتل كل ذرة فى تفكيرهم، حين أمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فراراً من اضطهاد المكيين لهم، وصوناً لأنفسهم من الفتنة فى دينهم. كانت الحبشة تمثل بالنسبة للعرب مركز عداء تاريخى، إذ لم ينسوا أن نجاشيها هو الذى وافق لأبرهة على غزو مكة -عام الفيل- وبارك مخططه لهدم البيت الحرام، وهى المؤامرة التى أحبطها الخالق العظيم بمعجزة سماوية منه.
وموقع البيت الحرام من نفوس أهل مكة معروف، سواء من الناحية الدينية، أو السياسية، أو المصالحية، لذلك فقد ارتجوا بعنف حين سمعوا أن محمداً أرسل أصحابه إلى النجاشى، وأخذوا يثرثرون بكلام ساذج عن أن محمداً يخطط لتحريض ملك الحبشة على غزو جزيرة العرب، حتى ينتقم من أهله الذين أنكروا دعوته.
بمرور الوقت أدرك عرب مكة حقيقة أن الهجرة إلى الحبشة لم تكن أكثر من عملية «فرار بالدين من أذى المشركين»، فالنجاشى لم يحرك جيوشه ويغزو بلادهم، بل على العكس تماماً استقبل الوفد الذى أرسلت به قريش لإعادة من فر من بنيها.
وثبت لهذا الوفد أن المسلمين المهاجرين لم يتصلوا بالنجاشى، رغم وصولهم إلى أرض الحبشة منذ مدة من الزمن، وكان أول لقاء جمعهم به، حين استدعاهم لمّا سمع عنهم من وفد قريش، وانتهت المفاوضات ما بين الطرفين إلى قرار بعدم تسليم «المهاجرين»، بل واحترام الرسالة التى يؤمنون بها، وموقفها من المسيح عليه السلام، حين أجابوا على سؤال «النجاشى»، حول نظرتهم الإيمانية إلى المسيح، فأجابوه بأنهم يؤمنون بأنه «كلمة الله وروح منه».
فى كل وقت كان العرب يشعرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم منهم. حتى وهو يدافع عن نفسه ضدهم، كان منهم، هذا الدفاع الذى بدأ بموقعة بدر، وانتهى بموقعة فتح مكة، وقد وقف صناديد مكة وبسطاؤها بعد الفتح أمام محمد، فسألهم: ماذا تظنون أنى فاعل بكم؟ قالوا خيراً.. أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
لقد عاملهم كما عامل يوسف إخوته، رغم كل ما فعلوه معه، لأنه منهم.. وصدق الله العظيم إذ يقول: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ».