بقلم - محمود خليل
تنوعت أوجه معاناة المصريين خلال فترة الاضطراب التى شهدتها البلاد بعد خروج الفرنسيين من مصر، وحتى تولّى محمد على السلطة عام 1805. كل شىء كان يُتخطّف من أيديهم.. طعامهم وشرابهم، وبيوتهم، وحتى حميرهم، كما حكيت لك ذات مرة.
الأمر لم يتوقف عند المعاناة المشتركة التى فرضها عليهم المماليك والأتراك، بل بدأ كل «غلبان» فيهم يُذيق أخاه «الغلبان» من بأسه وكأس ويلاته، بعبارة أخرى بدأوا يأكلون فى بعضهم البعض، وكأن قهر الولاة لهم لم يكن كافياً، فآثر بعضهم أن يلعب مع غيره لعبة «الشكاوى الكيدية» و«تلفيق التهم».
لم تكن المسألة تتطلب أكثر من مشوار «وقرشين»، يقوم الشخص بالذهاب إلى ديوان الوالى ليشكو أن فلاناً أو علاناً فعل معه كذا وكذا، ليصدر له فرماناً بتعيين شرطى يتولى أمر المشكو فى حقه، حتى يتم الفصل فى الشكوى، ولكى يقوم الشرطى المعين بتأديب المشكو فى حقه، لا بد أن يدفع له الشاكى عدة أنصاف من الفضة، وأن يبذل له بعض العطايا والهدايا حتى يقوم بالواجب.
يدخل الشرطى الموكل بالمشكو فى حقه إلى داره وهو مدجج بالسلاح، فيمسكه من قفاه ويتلو عليه الشكوى، وقرار تعيينه حارساً عليه، وأنه بات شريكاً له فى داره وحياته، ربما يكون الفلاح المسكين الذى وقع فى قبضة الظلم لا يدرى شيئاً عن الشكوى، ولا يعرف الشاكى، ويكون الموضوع ملفقاً من الألف إلى الياء، وأن المسألة لا تعدو مجرد رغبة من جانب جار أو قريب له يريد التشفى فيه وإذلاله بيد الحكومة.
على مدار اليوم يطلب الشرطى المعين من المشكو فى حقه تجهيز الفطور والغداء والعشاء، وإذا كان لديه طيور يذبحها له، ولمن يرافقه، إذا كان معه رفيق، ويبيت -آخر الليل- فى داره، وربما حصل منه أيضاً على بعض المال حتى يحسن معاملته، وهكذا تسير الأمور حتى يتم سحبه إلى بيت الوالى للتحقيق فى الشكوى والحكم فيها.
يقول «الجبرتى»: «وربما يذهب الشخص الذى يكون بينه وبين آخر عداوة أو مشاحنة أو دعوى قضى عليه فيها بحق من زمان طويل، فيقدم «عرضحال» ويعين له مباشراً بفرمان، ويذهب هو فلا يظهر، ويذهب المعين فى شغله، والمشكى لا يرى الشاكى ولا يدرى من أين جاءته هذه المصيبة.
ويمكن أنه من بعد خلاصه من أمر المباشر يحضر إلى بيت الباشا ويفحص عن خصمه ويعرفه، فينهى دعواه ويظهر حجته بأنه على الحق وأن خصمه على الباطل، فيقال له: عيّن على خصمك أيضاً فإن أجاب إلى ذلك رُسم له بفرمان ومعين آخر (شرطى) كذلك وإلا ترك أجره على الله ورجع».
السلطة المستبدة -كما كان الترك والمماليك- تستفيد من نشر الكراهية، وتعميق الضغائن الصغيرة، بين الناس، وتعتمد على أداء يفتقر إلى العدالة ويأخذ بالشبهة، ويقتات على آلام البشر.