بقلم - د. محمود خليل
ما من فرد إلا وتمر به لحظات فاصلة، بعضها طبيعى، وبعضها الآخر يبدو مصنوعاً.تبدأ الرحلة فى حياة الإنسان المصرى طبيعية، حين يعيش الشخص لحظة فاصلة ما بين مرحلة الطفولة والمراهقة، لكن سرعان ما تتوازى معها لحظة فاصلة مصنوعة، هى لحظة «الثانوية العامة».
فى كل بلاد الله يخوض أهلها مرحلة التعليم العام، التى تنتهى بعد ذلك إما بالعمل، وإما باستكمال مسيرة التعليم العالى فى الجامعات.
زمان -قبل يوليو 1952- كنا كذلك، إذ كان من الممكن أن تنتهى رحلة التعليم بالنسبة للشخص عند الحصول على «البكالوريا»، أو يُكمل تعليمه الجامعى، إذا امتلك القدرة المالية على ذلك، لكن الأوضاع اختلفت بعد 52، إذ أصبحت الثانوية العامة بالنسبة لمن يصل إليها، وكذا بالنسبة لأفراد أسرته، عنق زجاجة، ضمن أعناق زجاجات كثيرة، يحاول الشخص الخروج منه.
لا بأس فى أن تنظر بعض الأسر إلى الثانوية العامة كلحظة فاصلة بين مرحلتين، تختلف كل منهما عن الأخرى، لكن المشكلة تجدها لدى من ينظر إلى هذه السنة كلحظة «سباحة فى الغريق»، لا بد أن «يلوش» فيها الفرد بكل طاقته، حتى تُكتب له النجاة، ولو بالكثير من الخسائر.
حدثنى عن حجم الأموال التى تُنفق على الكتب الخارجية، والمذكرات، والدروس الأون والأوف لاين، حدّثنى عن محاولات النجاح والحصول على مجموع، بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، وما يضيع فى طريقها.
الأسرة التى يكون لها ابن أو ابنة فى الثانوية العامة تغرق فى تدبير المطلوب على كل مستوى من المستويات السابقة، دون أن تلتفت إلى أنها ليست بصدد لحظة فاصلة طبيعية، بل أمام لحظة مصنوعة صناعة.
فوراء الكتب الخارجية والمذكرات والدروس الخصوصية والغش وخلاف ذلك أباطرة مستفيدون يربحون أرباحاً خيالية من وراء صناعة ذلك الوهم الذى يطلق عليه الثانوية العامة.
الثانوية العامة لحظة وهم لسببين، أولهما أن مثلها كمثل كل مراحل التعليم تمنح شهادة فى الأغلب، وتقدّم علماً وتعليماً فى أقل القليل، وثانيهما أنها كمتطلب من متطلبات الالتحاق بالجامعات لا تضمن نجاحاً فى مجتمع مثل مجتمعنا، لا هى ولا الشهادة الجامعية، فأصحاب الحرف والمهن الذين يفلتون من وهمها قد يكونون أسعد حالاً، فى واقع لا يصنع العلم الحقيقى أو يقدمه عبر المدارس والجامعات، وحتى إذا حصّله فرد باجتهاد شخصى منه، فإنه لا يوجد طلب عليه، وحملة العلم أنفسهم أحياناً ما لا يلتفتون إلى العلم كثروة لا تعادلها أى ثروة أخرى، حتى لو كانت تلالاً من المال.
عنق الزجاجة المسمى بالثانوية العامة «مشغول من أصله»، والهدف الأساسى من «الاشتغالة» هو خلق آلة استنزاف للأسرة المصرية، مثل آلات استنزاف كثيرة تم اختراعها اختراعاً، ونجحت فى تحقيق أهدافها.
وأكثر زبائن هذه الآلة هم من أفراد الطبقة الوسطى، التى يُفترض فيها الوعى، ولا أجدنى بحاجة إلى تفسير الغايات الخفية من وراء «هد حيل» هذه الطبقة، واستنزاف ما فى جيب أفرادها.الثانوية العامة ليست لحظة فاصلة طبيعية فى حياة الشخص، بل لحظة مصنوعة، هدفها مجرد «الاستنزاف».