بقلم - د. محمود خليل
شاب عادى كان يعيش فى مقدونيا، تلك المدينة التى تقبع بعيداً عن مصر بأميال، حين رأى فى المنام أنه ظمئ ظمأ شديداً، فشرب كل ماء النيل ولم يرتوِ.
استيقظ الشاب محمد على من نومه مفزوعاً منقبضاً ذهب إلى شيخ سبعينى يقبع فى مسجد يتشاركان فيه الصلاة، جلس إليه وقصَّ عليه منامه، فقال له الشيخ: «أبشر يا بنى، فإن منامك يعنى أنك ستملك وادى النيل بأسره، ولن تكتفى به، بل ستسعى إلى امتلاك أقطار غيره»، فهزأ محمد على بالتفسير، لأنه استبعد الأمر جداً، ولكنه بالرغم من ذلك اشتعل بالخيال، واشتغل بالتفكير فى تأويل الحلم الغامض، وترجمته إلى واقع عملى.
تمتع محمد على بروح المغامرة، وحين هيأت له الظروف المجىء إلى مصر ذهب إليها، وخطط بأناة لإنفاذ حلمه، حتى تمكن من الصعود إلى سدة الولاية، ولحظتها بدأ يفكر فى كيفية الصمود عليه حتى آخر نفس فى عمره، وهداه تفكيره إلى ضرورة إحداث نقلة محسوسة فى علاقة الدين بالسياسة فى التجربة المصرية بعد العصر المملوكى.. نقلة أسست لنظرية «قدرية الملك»، ومفتاحها ذلك الحلم أو الحدث الغامض الذى يقع للإنسان فى الطفولة أو فى الشباب، ويحمل إشارة إلى ما أعده له القدر من مجد.
لك أن تتأمل الكيفية التى تناول بها كاتب مثل «إلياس الأيوبى» حياة محمد على، وقد كان قريب عهد من عصره، إذ وُلد عام 1874 أى بعد وفاة الوالى بخمس وعشرين عاماً، وسوف تلاحظ مدى شغفه بالمنظور القدرى فى تحليل نشأة محمد على فى مقدونيا ثم مجيئه إلى مصر.
لقد رفض الشاب محمد على فى البداية ترك ديرته والتحرك ضمن الحملة التى أعدها الخليفة العثمانى لتحرير مصر من الحملة الفرنسية، لكن موقفه تغير حين ذكّره الشيخ السبعينى بحلمه، وأن الأقدار أعدت له مجداً وسؤدداً مرسوماً على صفحة النيل.
الروايات التى تحكى دخول محمد على إلى مصر، وتبوؤه عرشها تنطلق فى أغلبها من المعنى الساكن فى الآية الكريمة: «ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسى»، وثمة أوجه تماس بينها وبين قصة دخول نبى الله يوسف إلى مصر أيضاً، حين ساقته الأقدار إليها ليتحقق موعود الله بأن يتولى مالية مصر، ويمسى عزيزها، وذلك رغم الفارق الكبير بين مفهوم النبى ومفهوم الحاكم، والأدوار التى يلعبها كل طرف منهما فى الحياة.
كان من الطبيعى أن ينظر محمد على إلى مسألة حكمه لمصر من زاوية قدرية بحتة، ويرى فى مسيرته فيها قدراً مقدوراً. وليس هناك خلاف فى أن الفكرة القدرية التى سيطرت على رأس الوالى مثلت أساساً يمكن فى ضوئه فهم توجهه إلى الحكم الأحادى العضوض، الذى توارث فيه أبناؤه وأحفاده حكم مصر من بعده، لمدة تزيد على قرن ونصف من الزمان.
على مدار هذه الفترة الزمنية كانت القدرية هى الأساس الذى يحكم نظرة مَن حكم مصر من أفراد الأسرة العلوية، دون أن يأبه كثيراً بالشعب الذى يحكمه، وللحق فقد كانت نظرة الشعب نفسه إلى الولاة والملوك والسلاطين الذين حكموه قدرية أيضاً، فإذا اعتلى سدة الملك رجل طيب، حمد الله على الأقدار التى تلطفت به، وإذا كان غير ذلك، فمن أعمالكم سلط عليكم.. وبختك يا أبوبخيت.. ووقت القدر يعمى البصر.