بقلم - د. محمود خليل
تعكس رواية "المرايا" لنجيب محفوظ رؤيته الخاصة للحياة في مجتمع مصر ما قبل يوليو 1952، وهي حياة منطوية على قدر كبير من التقلب والتحول.
فكل هدوء في حياة شخص ينذر بعاصفة تأتي بعده، وكل شرود لفرد قد يعقبه العثور على طريق.. كل شىء يتحول، وكأن التحول قدر، فالشرير قد ينقلب خيّراً، والخيّر قد يتحول إلى شرير، والملحد قد يتحول إلى مؤمن، والمؤمن قد يحيد عن طريق الإيمان، والعقلاني قد يتحول في لحظة إلى درويش، والدرويش قد يتحول إلى عقلاني وهكذا.
والأصل في ذلك هو تركيبة هذا الشعب الذي يصفه الدكتور ماهر عبد الكريم -إحدى شخصيات الرواية- بالوحش المذكور في بعض الاساطير الشعبية، يستيقظ أياماً وينام أجيالاً.
فالنوم هو الحالة المفضلة لكن الحذر كل الحذر من لحظة يقظة قد يأتي فيها بالأعاجيب، وينقلب فيها من حال إلى حال.تتعجب وأنت تقرأ رواية المرايا كيف أجاد نجيب محفوظ ملاحظة الحياة من حوله والشخوص الذين يتحركون على مسرحها، والتقاط من يصلح منهم ليحولهم إلى أبطال لرواياته، ورسم تحولاتهم على الورق، تلك التحولات التي تضرب المثقف الكبير والفلاح البسيط، المتعلم والجاهل، الرجل والمرأة، ابن المدينة وابن الريف، الشاب والطفل والكبير الطاعن في السن.
كل هذه النماذج تنام سنين طويلة -من وجهة نظر نجيب محفوظ في المرايا- حتى يظن من ينظر إليها أنه يستعيد مشهد "أهل الكهف"، الذين لبثوا في كهفهم أكثر من 300 عاماً، لكنهم قادرون على مفاجأته بلحظة يقظة ينتقلون فيها من حال إلى حال.أولى شخصيات المرايا "ابراهيم عقل" تقدم لنا نموذجاً على خط التحول الذي يحكم شخصيات الرواية.
فقد بدا في أول الرواية كرجل يحتفي بالعقل والبحث عن الحقيقة، غير مكترث بأحاديث السياسة، بل ويرى أن السياسة أكبر مفسدة للعقل البشري، لأن الحماس العاطفي أحياناً ما يغلب عليها.
عاش "عقل" حياته بالعقل وبحسابات المصالح بصورة أساسية، وكانت عاطفيته تظهر فقط وهو يلاعب ابنيه، فقد كانا بالنسبة له مصدر السعادة الأول والأخير، ظل الأستاذ الجامعي والمفكر العقلاني يحقق المكاسب ويتبوأ المناصب سنين عددا، حتى ضرب مصر وباء الكوليرا عام 1947، فاختطف من ضمن ما اختطف ولديه.
بدا "ابراهيم عقل" ذاهلاً وكأنه ليس من هذه الدنيا، وهو يشيع فلذتي كبده إلى مثواهما الأخير. بعدها بدأ ينحي عقله جانباً، وفوجى من حوله بتحوله إلى دوريش في رحاب "الحسين".
لم يعد يُرى إلا أمام مقصورته. احتار من يعرفون الرجل في أمر إيمانه، وهل هو إيمان النشأة الذي استيقظ داخله فجأة، أم إيمان الإدراك والعقل، أم الإيمان الناتج عن كارثة، أم إيمان الفلسفة.
لم يصل أي منهم إلى إجابة قاطعة على هذا التحول، لكنهم جميعاً انتهوا إلى أن الرجل وجد أخيراً واحة راحة، فآوى إليها من حر الدنيا وقسوتها.
اقتنع الجميع أن العقل بمفرده لا يمكن أن يقيم صلب الإنسان أمام أحداث الحياة، وأن القلب بمفرده وما ينتج عنه من عاطفية وحماس لا يمكن أن يضع الإنسان فوق أرض صلبة يستطيع أن يغير منها واقعه.. فالانسان عقل وقلب.