بقلم - د. محمود خليل
اتباع الهوى وعدم الاحتكام إلى قيم ومعايير العقل والدين يعدان مؤشرين أساسيين على الضلال.. والضلال هو الطريق السريع الذى يؤدى بصاحبه إلى نسيان يوم الحساب.. يقول الله تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ».
الخطاب فى الآية الكريمة يتوجه إلى نبى الله «داود» عليه السلام، ويبدأ بتنبيهه إلى خطورة الموقع الذى وضعه الله فيه، وهو موقع «الخليفة». معانٍ كثيرة يمكن أن نستخلصها من تأمل مفردة «خليفة»، أخطرها معنى الوريث والامتداد لمن سبقه من الأنبياء أو المرسلين، وأحد الأدوار الأصيلة للخليفة -كما توضح الآية الكريمة- يتحدد فى القضاء بين الناس، والتأكيد على العدل وإحقاق الحق عند الفصل فى الخلافات، وأن الحكم لا بد أن يكون بريئاً من الهوى، بما يعنيه ذلك من تنحية المصالح الخاصة والميول الذاتية جانباً، وإصدار الأحكام بأعلى درجات الموضوعية. فالاحتكام إلى الهوى يؤدى بالضرورة إلى الضلال، والحيود عن طريق الله، والحيود عن طريق الله مؤشر لا يخطئ على نسيان يوم الحساب.
ولو أنك تأملت معنى كلمة «الحكم» فى القرآن الكريم فسوف تجد أنها دالة على «الحكمة» بما تعنيه من قدرة على إدراك الحقيقة، والتجرد من الهوى عند إطلاق الأحكام، والموضوعية فى النظر إلى الأشياء، والعدل فى سياسة أمور البشر. معنى الحكمة فى القرآن الكريم كبير وخيرها لمن رزقها كبير: «وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا»، لذا مزج الله تعالى بينها وبين الحكم «وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا».
الويل كل الويل للواقع الذى تغيب عنه الحكمة، ويسيطر عليه الهوى. فتلك هى مقدمة اللعنة، لأن سيطرة الهوى تعنى غياب العدل كما تشير الآية الكريمة: « فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى»، وغياب العدل يعنى ضياع الحقوق. وهناك حديث للنبى صلى الله عليه وسلم يقول: «لعن الله قوماً ضاع الحق بينهم».. والخضوع للهوى ليس له من معنى سوى نسيان يوم الحساب، فصاحب الهوى هو شخص مستغرق فى ذاته، متشرنق حول نفسه لا يكاد يبصر إلهاً، ومن الطبيعى أن ينسى يوم الحساب، فهذا النسيان هو الذى يغريه أكثر وأكثر بالخضوع لهواه، وحتى إذا تذكر قصة الحساب فى لحظة فإنه يصرفها عن ذهنه مباشرة، ليدخل فى دائرة التيه والنسيان.
وقد يتساءل البعض: أيهما يسبق الآخر: اتباع الهوى أم نسيان يوم الحساب؟ الآية الكريمة تحمل دلالة على أن نسيان يوم الحساب هو الأصل أو المقدمة، التى تترتب عليها تلك النتيجة الخطيرة، المتمثلة فى «اتباع الهوى»، واتباع الهوى مقدمة لضلال الإنسان عن طريق الله، طريق الحق والعدل والاستقامة.
لقد نبه الله تعالى أنبياءه إلى ضرورة أن يذكّروا أنفسهم وأقوامهم -باستمرار- بأن يوم الحساب آتٍ لا بد، وأن العاقل من يحذر فى سلوكياته ويتقى الله فيما يفعل، لأنه محاسَب. فإنكار الحقيقة أو نسيانها لا ينفى وجودها.. الله موجود والحساب آتٍ لا ريب فى ذلك.