بقلم - د. محمود خليل
مجموعة من الحكايات قصها علينا شاعر الأطلال «إبراهيم ناجى» فى كتابه «أدركنى يا دكتور»، وهى فى المجمل تصف أحوال الطب فى مصر، بطرفى معادلته «الطبيب والمريض»، بدءاً من عشرينات القرن الماضى حتى الخمسينات، يعنى بعضها يحكى لك أحوال الطب فى مصر من 100 سنة، أى قرن كامل من الزمان.
استوقفنى فى هذه الحكايات ما قاله أحد الأطباء من أصدقاء إبراهيم ناجى، تخصصه «التحليل النفسى»، وهو يصف المصريين، إذ زعم أن 50% منهم يعانون المرض النفسى، ويحتاجون إلى علاج، وأردف: «إن نصف المصريين يشكون من الكبت، والنصف الثانى لا يشكو من شىء مطلقاً. نصف مرهف الحس جداً، ونصف استحال الحس عنده إلى مادة».
مؤكد أن الصديق، الذى نقل عنه الشاعر إبراهيم ناجى هذا الكلام، اعتمد على التخمين فى وصف الحالة النفسية للمصريين. فلا أظن أن إحصاءات كانت تتوافر فى ذلك الوقت حول نسبة المرض النفسى بين المصريين، لكن يبقى أن التوزيعة التى «نصص» عليها المصريون لا تخلو من وجاهة. فنصف المصريين -من وجهة نظره- يشكون الكبت (الكبت أحد الأمراض النفسية)، وهذا النصف يمتاز برهافة الحس، فى مقابل نصف لا يشكو مطلقاً (قد يكون ذلك أيضاً شكلاً من أشكال المرض النفسى) لأنه يملك جلداً سميكاً يجعله لا يحس أو يشعر.
يبدو أن فكرة انتشارية الأمراض النفسية بيننا كمصريين قديمة وأبعد زمناً مما نسمعه أو سمعناه، مثل الحديث عن أن 25% من المصريين يعانون من أمراض نفسية. الفارق بين الآن وزمان تجده فى نوع الأمراض النفسية الشائعة. فـ«صديق الشاعر» يتحدث عن أن الكبت هو أكثر الأمراض الشائعة بين المصريين منذ 100 سنة، فى حين تشير التقارير حالياً إلى أن الاكتئاب هو المرض الأكثر شيوعاً بين المصريين، يضاف إليه القلق والخوف.
الواضح أننا كشعب نعانى من الأزمات النفسية أكثر من غيرنا من شعوب العالم، فمتوسط نسبة انتشار الأمراض النفسية بين شعوب العالم المختلفة تصل إلى 10% فقط، وهى نسبة أقل بكثير من النسبة لدينا، سواءً فى الماضى أم فى الحاضر. فنسبة لا بأس بها من المصريين غير متكيفين مع الواقع الذى يحيون فى ظلاله، مما يؤدى إلى اكتئابهم، تماماً مثلما كان «الكبت» يؤدى إلى الاكتئاب. وتفسير صديق الشاعر «إبراهيم ناجى» لذلك تجده فى حديثه عن رهافة وانعدام الإحساس. فالذين يحسون ويشعرون يسهل أن يقعوا فى فخ الاكتئاب، وكأن الإحساس والشعور ابتلاء، أما المتبلدون أصحاب الجلد السميك ممن تعطلت آلة الشعور والإحساس لديهم فإنهم أسعد حالاً من غيرهم، وهم ناجون من المرض النفسى.
قد تكون واحدة من حقائق الحياة تلك التى تقول إن معدوم الإحساس لا يعانى مثل صاحب الإحساس.. وقديماً كان الشاعر يقول: «ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله.. وأخو الجهالة فى الشقاوة يسعد»، لكن يبقى أن أصحاب الإحساس هم العنوان الأكثر احتراماً للإنسانية.