بقلم - د. محمود خليل
"ولما كانت الحلقة الثالثة بعد المائة السابعة.. فرغ الملك شهريار من مشاغل النهار.. ونفض غبار العمل.. وانطلق على عجل.. فدخل كهف الأسرار.. وجلس في الانتظار.. تأخذه أفكار وتجىء به أفكار".. بهذه الكلمات المتدفقة كان ينطلق صوت الفنانة زوزو نبيل ممهداً المستمعين للحلقة الجديدة من مسلسل "ألف ليلة وليلة" أحد المعالم الرمضانية الخالدة التي ارتبطت باسمين باقيين، هما اسم المؤلف طاهر أبوفاشا.. واسم المخرج: محمد محمود شعبان.
"أبو فاشا" كان مدرس لغة عربية أجاد النحت بالكلمات.. وتقديم كتابة خالدة مرتكزة على فصحى رقيقة.. وعامية بليغة.. تقدم في بساطة وعمق أروع الحكم وأبدع سلاسل الحكي الإنساني.. أما محمد محمود شعبان فهو "باب شارو" مقدم البرامج والمخرج الإذاعي الذي ارتبطت باسمه أخلد الأعمال الإذاعية وعلى رأسها مسلسل ألف ليلة وليلة والعديد من الصور الغنائية.
من استمع إلى حكايات ألف ليلة وليلة الإذاعية لا يتوقف فقط أمام إبداع كاتب أو مخرج، تميز كلاهما بالعبقرية وفقط، بل يتوقف أيضاً أمام أداء صوتي وتمثيلي مبهر لكوكبة من أكبر الممثلين في تاريخ السينما المصرية وجدوا سبيلهم إلى أذن المستمع عبر هذا النص المبهر.
استمع إلى صلاح منصور وهو يؤدي دور "سلامة" في قصة: "سلامة والمغاربة" وصوت عبد العزيز خليل في دور "معروف" داخل قصة "معروف الإسكافي"، وعبد المنعم مدبولي في حكابة "علي الزيبق".. يكاد يكون كل نجوم السينما حينذاك قد شاركوا في هذا العمل الإذاعي الكبير، الذي كان له كبير الأثر على أجيال متتالية كان الراديو يمثل مصدر ونسها وثقافتها خلال الستينات والسعبينات. حتى اللحظة لم يزل لحلقات ألف ليلة وليلة أثرها على الأجيال التي استمتعت بها خلال هاتين الحقبتين، ويتواصل الأثر لدى من يحبون الاستماع إلى الحلقات المتوافرة من هذا العمل على مواقع السوشيال ميديا.
ولا يستطيع من عاش طفولته خلال هذه الفترة أن ينسى ولع الكبار بالاستماع إلى الحلقات، وانفعالهم الكبير بها، وغرقهم الكامل في حالة من الخيال التي تختلط فيها الحكمة بصرخات العفاريت بأحداث الحياة وتقلباتها.
لا أستطيع أن أحدد على وجه التحديد السر في تميز هذا العمل وغيره من الأعمال التي قدمتها الإذاعة خلال رمضانات الستينات والسبعينات، أستطيع فقط أن أخمن أنه "الإخلاص".. فهذا الجيل من الفنانين كان مخلصاً بعمق في تجويد ما يقدمه.. المؤلف مخلص في تقديم نص قادر على تحقيق المعادلة الصعبة التي تجمع بين التسلية والتثقيف وتغذية العقل وإمتاع الوجدان.. والمخرج كان يترجم النص الورقي إلى نص مسموع بأعلى درجات الإخلاص أيضاً، كان يعيش النص في البداية بصورة كاملة، يدخل بين سطوره، يجتهد في استخلاص المعاني والغايات التي تحرك كل سطر فيها.. أما الممثلون –كبار وصغار- فكانوا ذائبين في العمل الذي يقومون به.. قدرة فائقة على تقمص الأدوار، والحياة داخل الشخصية التي يقوم بتمثيلها، ومهارة في الأداء الصوتي بصورة تنقل لك المشاعر والمعاني والانفعالات الإنسانية، حتى يسكن المعنى عقلك، والإحساس قلبك، من أقصر الطرق الممكنة.إنه جيل سواه الله من إخلاص.. وسبحان الخالق العظيم.