بقلم - د. محمود خليل
تعلم أنه بعد أن دخل الإنجليز مصر قبضوا على «أحمد عرابى»، وحُوكم بمعرفتهم، وصدر الحكم عليه بالإعدام، ثم خُفّف إلى النفى، فى المقابل تدعمت سلطة الخديو توفيق فى الحكم بعد أن أصبح فى حماية الإنجليز، وباتت مطالب الثورة العرابية فى الإصلاح فى خبر كان.
ورغم حالة الإحباط العام التى أصابت الناس جراء فشل الثورة، فإن وجدانهم ظل معلقاً بمحبّة زعيمها أحمد عرابى، وأخذوا يلتمسون له المعاذير فى الفشل، مثل تواطؤ الخديو مع الإنجليز ضده (يا توفيق يا وش القملة.. مين قالك تعمل دى العملة)، وأن خيانة بعض من ظن «عرابى» أنهم أنصار له هو السبب فى كسره (الولس كسر عرابى).
أمام هذه الحالة وجد المحتل أن الخطوة الضرورية الأولى التى يتوجّب عليه القيام بها لتخريب الوجدان العام هى «الاغتيال المعنوى لعرابى»، فبدأوا يطلقون فى الشارع المصرى رسالة مضادة تقول: إن «عرابى هو السبب فى الاحتلال»، ولولا تحرّكه ضد الخديو لما دخل الإنجليز مصر، وأن ما قام به ليس ثورة بل «هوجة»، خرج فيها العوام والغوغاء من أجل التخريب، وأنه «عاصٍ» انخلع من طاعة أولى الأمر، وعلى رأسهم سلطان المسلمين فى إسطنبول، الذى أعلن صراحة عصيان «عرابى»، وأنه لم يكن رجل سياسة يعرف كيف يدبّر أمر البلاد، بما يحقق صالحها، وغير ذلك.
أمام هذا الطرح بدأ الشارع فى الانقسام، وظهر من بين الناس من يردّد أن عرابى «عاصٍ وفاشل وأهوج»، وأنه «ودّا البلد فى داهية»، وتسبّب فى احتلال الإنجليز لها. فى هذه اللحظة بدأ الوجدان المتماسك على فكرة تأييد «عرابى» يدخل «حالة سيولة».
ابتعد أداء المحتل الإنجليزى عن العشوائية وهو يقوم بمهمة «الاغتيال المعنوى لعرابى»، واعتمد على أدوات مؤثّرة فى هذا الاتجاه. كان من بينها بعض الصحف التى أنشأها المحتل وموّلها، لتقوم بمهمة أساسية، هى الهجوم على عرابى وتشويه صورته أمام الرأى العام المصرى. ومن العجيب أن تجد بعض رموز الوطنية المصرية الذين عاصروا «عرابى» وعلت أصواتهم بالمطالبة بجلاء الإنجليز عن مصر اتجهوا هم الآخرون إلى تشويه صورة الرجل، فالكثير من رموز الحزب الوطنى -وعلى رأسهم مصطفى كامل- وصحيفة «اللواء» تعمّدوا الهجوم على «عرابى» والإساءة إليه.
والأعجب أن تجد شاعراً كبيراً مثل أحمد شوقى يستقبل أحمد عرابى، بعد عودته من المنفى، بقصيدة طويلة يهجوه فيها، يقول مطلعها: «صغار فى الذهاب وفى الإياب.. أهذا كل شأنك يا عرابى.. عفا عنك الأباعد والأدانى.. فمن يعفو عن الوطن المصاب».
لم ينزعج الإنجليز من الاعتماد على توظيف فكرة أن «عرابى» السبب فى الاحتلال» فى رحلة الاغتيال المعنوى لشخصه، بل ربما كانوا وراء طرحها فى الشارع، من أجل تخريب الوجدان العام، وقد نجحوا فى ذلك، ووجدت الفكرة على مستوى النخبة السياسية والأدبية من يروج لها، وعلى مستوى الشارع كثيرين ممن تقبلوها وردّدوها، رغم ما فيها من قفز على الحقيقة الموضوعية التى تقول إن الإنجليز كانوا يخططون لاحتلال مصر منذ حملة نابليون على البلاد (1798 - 1801)، وأنهم سيّروا حملة لاحتلالها عام 1807، لكنها انكسرت أمام مقاومة الأهالى لها، ورغم ذلك ظل الإنجليز يتدخّلون فى شئون مصر ويسعون إلى السيطرة عليها، حتى تحقّق الهدف عام 1882.
كما أن هناك حقيقة أخرى تقول إن من دعا الإنجليز لدخول مصر بهدف حمايته هو الخديو توفيق، وليس «عرابى»، ورغم ذلك لم يتّهمه أحد بالتسبّب فى احتلال مصر.
كان لـ«عرابى» أخطاء كثيرة بالفعل، لكنها أخطاء رجل حاول الاجتهاد فى إصلاح الواقع الذى يعيش فيه، فأصاب فى أحوال، وأخطأ فى أخرى