بقلم - محمود خليل
كان الشاعر يطلب مستحيلاً، حين أراد من الوالى ألا يأخذ بالشمال ما أعطاه له باليمين. والشاعر هو زكى الدين القوصى، وكان يعمل فى خدمة المظفر محمود قبل أن يصبح ملكاً على «حماة». خلال الفترة التى سبقت تملكه للأمر، كان «المظفر» يجلس مع الشاعر، ويعبر له عن أمله فى أن يتوج ملكاً على حماة، وكان الشاعر يدعو له، ويطمئنه بأنه سينال طلبه ويحقق حلمه.. وفى إحدى المرات وعد «المظفر» خادمه الشاعر إذا تحقق مأموله أن ينفحه بـ1000 دينار عداً ونقداً.
شاء السميع العليم أن يصبح المظفر محمود ملكاً على «حماة»، لحظتها طلب الشاعر «زكى الدين» منه الوفاء بوعده ونفحه بالألف دينار، فاستجاب الملك وأعطاه بيمينه المبلغ. بعدها بدأ الملك يكلف خادمه بمهام وأشغال كانت تقتضى منه الصرف على تنقلاته وطعامه وشرابه خلالها، وإن هى إلا مهمة، والثانية، ثم الثالثة، حتى بدأت الألف دينار تنفد، ولم يتبق منها دينار واحد، ورغم أن الملك هو الذى كلفه بهذه المهام، فإنه لم يعوضه بشىء. كان «القوصى» سليط اللسان، لا يسكت على حق سُلب منه، أو ظلم حاق به. كتب «القوصى» شعراً يسخر فيه من الملك الذى أعطاه الألف دينار «جملة»، ثم سحبها منه «قطاعى»، أو سحب بالشمال ما أعطاه له باليمين.
سمع المظفر محمود ما قاله «القوصى» فاغتاظ وغضب وقرر معاقبته، فأمر بالقبض عليه، وألقى به فى الحبس. لم يفهم الشاعر المسكين أنه طلب مستحيلاً، حين أراد أن يمر أمر تشهيره بالملك دون عقاب، ولم يفهم أن الانتقام من عوائد الملوك، فهم يظنون أنهم لا يملكون فقط الأرض التى يحكمونها، بل والبشر الذين يمشون عليها. لم يضع الشاعر لسانه فى فمه ويكف شعره عن الملك، بل أنشد من جديد شعراً يتساءل فيه عن الألف دينار، وهل أعطاها له الملك على سبيل النفحة أم على سبيل الديّة؟. الشىء العجيب أن التجربة أثبتت للشاعر أن أية مقالة سيقولها فى حق الملك سيكون لها ثمن، ورغم ذلك فإنه لم يستطع أن يمسك لسانه، وقد كان السجن ثمناً لتشهيره الأول بالملك، الذى يعطى باليمين ويأخذ بالشمال، ومؤكد أنه كان يعلم أن الثمن الذى سيدفعه مقابل مقالته الثانية أكبر وأشد وطأة، بل وكان يتوقعه حين أشار إلى موضوع «الديّة».
وصل خبر التشهير الجديد إلى الملك المظفر محمود، وعندما سمعه أُسقط فى يده، وقرر أن يضع كلمة النهاية فى رحلة الشاعر المسكين الذى أضاعته موهبته فى النقد اللاذع لمن يهدر حقوقه، حتى ولو كان ولى الأمر، أصدر «المظفر» أوامره بقتل «القوصى»، فتحرك الحرس إلى مقر الحبس الذى يقبع فيه، وأخرجوه ثم انقضوا عليه، وخنقوه، وبعد أن انتهوا سحبوا جثته، ودفنوه تحت جنح الليل.