بقلم - د. محمود خليل
هل رأيت صورة «أم كلثوم» وهى ترتدى الطرحة والجلباب الأسود، ويشع من عينيها بريق يشف عن أنهار الطيبة التى تتدفق فى داخلها؟ ظنى أن هذه الصورة على وجه التحديد تمثل الصورة الرسمية لجيل الجدات، أحتفظ بصورة لجدتى وهى ترتدى نفس الزى الذى كانت ترتديه «أم كلثوم»: الطرحة السوداء التى تغطى شعرها حتى منتصف جبهتها، وتنسدل فى رقة فوق كتفيها وقد تغلقها إحداهن على صدرها، وتتركها أخرى منطلقة فوق الكتفين، والجلباب الأسود المطابق فى لونه للطرحة، والنظرة التى تتدفق منها الطيبة والمحبة للحياة.
وثّق محمود عوض أكثر من صورة لكوكب الشرق «أم كلثوم» وهى ترتدى الزى الرسمى لجيلها فى كتابه «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد» وسجل أكثر من لقطة لـ«نظرة الطيبة» التى كانت تحملها عينا الجدة العظيمة. «الحشمة» كانت تمثل معلماً أساسياً من معالم الجدات، لم تكن الحشمة تعبر عن تزمت بقدر ما كانت تعكس نوعاً من الاحترام للذات ولتقاليد المجتمع، بالإضافة بالطبع إلى مراعاة قواعد الأناقة والشياكة.
صورة «أم كلثوم» التى وثّقها «محمود عوض» يمكن أن تجد لها مثيلاً لو فتشت فى دولاب ذكريات أية عائلة تحتفظ بصور الجدات، إذ من الوارد أن تتشابه مع صورة «كوكب الشرق» بشكل أو بآخر.
أزياء «أم كلثوم» فى أغلبها أزياء شتوية. راجع الصور والفيديوهات التى سجلت لحفلاتها ستجدها مرتدية فساتين طويلة ذات أكمام تعكس مدى ذوق وأناقة صاحبتها. فى ثقافتنا المصرية نقول إذا سلمنا على أحد فوجدنا يده «ساقعة» فنقول إن «قلبه دافئ»، وإذا كانت يده دافئة نقول إن «قلبه ساقع». ميل «أم كلثوم» إلى الملابس الشتوية يعكس تاريخاً طويلاً من الإحساس بالبرودة الخارجية والدفء الداخلى. ولو أنك راجعت سيرة «أم كلثوم» التى حكاها «محمود عوض» فستجد أن أكثر ما كانت تعانى منه هو البرد الذى يخترق طفولتها ومراهقتها، حين كانت تتنقل مع أبيها من قرية إلى أخرى لتحيى الليالى بإنشادها العذب، تحكى «أم كلثوم» أنها مكثت مع أبيها وأخيها -ذات مرة- تنتظر القطار على إحدى المحطات لمدة 12 ساعة، وتستطرد: «وكان الانتظار فى معظم الأيام وسط البرد الشديد أو تحت الأمطار الغزيرة التى كانت تحرص على استقبالنا فى كل محطة نلجأ إليها».
جدتنا «أم كلثوم» كانت مثل كل جداتنا من الصلابة بمكان، تحملت المعاناة فى صبر وصمود، وكان مصدر ثباتها هو قوة روحها ورقة قلبها، بالروح والقلب قاومت «أم كلثوم» أوجاع الجسد أمام غزوات البرد الذى ينخر جسدها النحيل، فزاد روحها قوة على قوة، وقلبها رقة على رقة، وهو ما انعكس على صوتها العبقرى الذى كان يهدر عاصفاً حين يريد فيمطر الآذان بأجمل النغمات، ثم يرق ويتدفق بعذوبة ليتسلل إلى قلوب مستمعيها ليسكن كل خلية من خلاياها.
أظن أن فصل الشتاء صنع «أم كلثوم» أكثر من أى فصل آخر من فصول السنة، وسوف تجده حاضراً فى كل ما حكته من ذكريات وهى تسرد قصة كفاحها، إنه الفصل الذى طرقت فيه باب الحياة، كما غادرتها فى أحد أيامه.