بقلم - د. محمود خليل
لم يكن «أمين المالطى» زعيماً سياسياً، أو فناناً، أو أديباً معروفاً، لكنه عاش أشهر من نار على علم فى القاهرة. تبوأ «أمين» موقع الفتوة الرسمى لحى عابدين لسنوات طويلة. وهو مصرى عتيد وليس مالطياً ولا يحزنون، واكتسب لقب «المالطى» فى ظروف معينة سأحكيها لك. وتم استدعاؤه فى فيلم «قطار الليل» عبر شخصية «المالطى» التى جسدها الرائع الراحل «سراج منير».
حكى الدكتور عبدالمنعم شميس حكاية «أمين المالطى» فى كتابه «شخصيات مصرية»، الفتوة الرسمى لحى عابدين، وذكر أنه كان مزدوج الجنسية، يحمل الجنسية الإنجليزية إلى جوار جنسيته المصرية، وبالتالى فقد كان «حماية» طبقاً لقانون الامتيازات الأجنبية الذى استنه الخديو إسماعيل.
بيته كان على الرصيف فى الصيف، وفى مداخل البيوت شتاء، أجنبى الملامح، ذو عيون ملونة وشارب وشعر أصفر، طويل الجسم عريض البنية، يمتلك قوة بدنية تغنيه عن حمل السلاح. ذراعاه المفتولتان احترفتا كسر الرقاب، وقد فعلها مع عسكرى دورية لا يعرفه، اعترضه ذات يوم، حين وجده نائماً على الرصيف، فما كان من الفتوة إلا أن كسر رقبته وتركه صريعاً، وانتقل ليكمل نومه على الرصيف المقابل، أما عن مهارته فى كسر الأرجل والأيدى، فحدث ولا حرج، وقد فعلها مع كثيرين.
لم يجرؤ أحد على الوقوف ضد «أمين»، ولم يفلح القانون يوماً فى إدانته، لأنه كان «حماية إنجليزية».
وكما كان فى «الحماية» سوره العالى الذى يحميه، كان فيها مأخذه أيضاً، وذلك حين ساقته الأقدار ذات يوم للاعتداء على «خواجة رسمى»، هو «الخواجة ينى»، صاحب حانة الخمر المعروفة، فقد رفض الأخير -ذات يوم- تلبية طلباته، فما كان من الفتوة إلا أن حمله وهبده على الرصيف، وفوق إحدى بلدوراته كسر رجله، بصورة احترافية.
تم سحب «المالطى» على القسم، وهناك حضر القنصل الإنجليزى «حامى حماه» والقنصل اليونانى «حامى حمى ينى». باتت «حماية» أمام «حماية».
أخذ الإنجليز يبحثون عن حل حتى هداهم تفكيرهم إلى نفيه، إذ كانت الموضة فى هذا العصر -كما يحكى «شميس»- نفى كل من تغضب عليه إنجلترا إلى «مالطة». قررت سلطة الاحتلال نفى «أمين» الفتوة إلى مالطة.
ركب «الفتوة» السفينة من الإسكندرية، برفقة مجموعة من طلاب المدارس العليا والشباب المعارضين للاحتلال، وأبحرت بهم إلى «مالطة»، ليعيشوا حياتهم فى المنفى.
لا توجد أخبار عما فعله «الفتوة» فى مالطة، أو كيف عاش فيها، لكن الواضح أنه قضى فيها بضع سنوات، عاد بعدها إلى مصر، وواصل دوره فى فرض الإتاوات على من يريد من فقراء ومساتير المصريين، ولم يكن يترك فرحاً إلا ويفرض إتاوة على أصحابه، وإلا تحولت الجوازة إلى جنازة، وكان الكل يدفع، بمجرد أن يلوح «المالطى» بقبضة يده، وبالخاتم الذهب الكبير الذى يزين أحد أصابعه، وهو أداته فى ترك علامة لا تنسى على وجه من يعصى أوامره، تنبه غيره إلى أهمية الطاعة.
عاد أمين الفتوة من مالطة وهو يحمل لقب «المالطى»، وظل على ما هو عليه، ولم تعد شكاوى المصريين تجدى فى التخلص منه شيئاً.. وكأنهم يؤذنون فى مالطة.