هذا المقال أعيد نشره بمناسبة ذكرى ميلاد الشيخ محمد صديق المنشاوى:
فى برنامج إذاعى نادر سُئل الشيخ «المنشاوى»، رحمة الله وبركاته عليه، عن الآية الكريمة التى يحب قراءتها باستمرار؟ فأجاب: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».
يوم 20 يناير الجارى تجددت ذكرى ميلاد «رجل القرآن» الشيخ محمد صديق المنشاوى (20 يناير عام 1920) الإنسان الذى عاش لكتاب الله، وتوفى على آياته الكريمة عام 1969، ولم يكن قد أكمل الخمسين من عمره بعد.
أى حديث عن صوت «المنشاوى» لن يضيف جديداً، فقد قال مجايلوه فى وصف صوته الكثير، وقالت الأجيال التى أعقبته وما زالت تنصت لتلاواته العذبة أكثر. إنه الرجل صاحب الصوت الرقراق الذى يسبح للخلاق فيأسر من يستمع إليه، ليخشع قلبه لما تحمله آيات الكتاب الكريم من معانٍ.
يبقى أن كل محبى الشيخ يحتارون فى السر الغامض الذى يميز صوته المتدفق بآيات القرآن الكريم ويربط قلوبهم بتلاواته.
هل السر فى كم العذوبة المتدفقة من حنجرة الشيخ والقادرة على دفع السامع إلى إحساس عميق بالحنين، حنين العبد إلى خالقه؟ أم شلال الأنين المتدفق من تلاوته ليفجر داخل سامعه إحساساً عاتياً بالشجن من الحياة الفانية التى مهما طال العمر فيها بالإنسان فلا بد له من لحظة زوال، وهى لحظة معجونة بالشجن فى روح بنى آدم؟.
صوت الشيخ «المنشاوى» بالفعل خط نورانى يمتد بين نقطتين: النقطة الأولى هى العذوبة، والثانية هى الشجن، لكن يبقى أن السمتين لا تكشفان السر الغامض فى صوته.. فهناك أصوات أخرى تميزت بهما من بين قراء القرآن الكريم.
ظنى أن الشيخ كشف قبل سنتين من وفاته فى البرنامج الإذاعى الوحيد الذى اختزن لقاءً معه عن السر الغامض الذى يجذب مستمعى القرآن الكريم إلى تلاوته.
الآية الكريمة كانت تستوقف الشيخ المنشاوى باستمرار: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» تحمل التفسير وتكشف عن سر التميز فى أدائه القرآنى.. إنه الصدق.
كان الشيخ المنشاوى صادقاً فى إحساسه بمعانى الآيات الكريمة التى يتلوها، فانطلق صوته بالصدق، والأداء الصادق هو أقصر طريق للوصول إلى القلب والعقل.. الصدق هو أصل العنصرين الأساسيين اللذين تميز بهما صوت الشيخ المنشاوى: العذوبة والشجن.
صدق «المنشاوى» فى إحساسه بآيات الكتاب الكريم فملأ قلوب سامعيه بالخشوع وسكنت معانيها الجليلة فى عقولهم.
المستمع إلى البرنامج الإذاعى الوحيد الباقى للشيخ المنشاوى يشعر أنه بإزاء إنسان عاش بين الناس ريحاً مرسلة، وروحاً سمحة، ملكتها معانى القرآن الكريم، وارتقت بها.
بنى مسجداً قبل وفاته، عملاً بنصيحة صديق مسيحى له، كما حكى، وأطلق اسم أبيه القارئ الراحل «الشيخ صديق المنشاوى» على المسجد، عندما طلب منه المذيع أن يفتتح البرنامج بتلاوة، إذا به يترنم بالآيات التى تقول: «رَبِّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ».
كأن الشيخ الجليل كان ينعى نفسه ويدعو ربه بأن يلحقه بالصالحين بعد أن صدق لسانه بتلاوة الكتاب الكريم.. وبعدها بسنتين رحل عن الحياة بنفس راضية مرضية.. رضى الله عنه وأرضاه.