بقلم - د. محمود خليل
فى مرحلة الطفولة يحفظ الأطفال عبارة «الكداب بيروح النار»، لكنك لا تضمن أن تسكن العبارة التى يردّدها اللسان حنايا القلب، فهناك من يشبّون و«الكذب» يشكل رأسمالهم فى الحياة، والمجال الأساسى الذى يجيدون الاستثمار فيه. وهذه الحالة وصفتها الآية الكريمة التى تقول: «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ»، فالكاذب ميال إلى تكذيب من حوله، اعتماداً على نظرية «الناس كلها كده»، وهى واحدة من النظريات التى يستخدمها بعض الأفراد فى تبرير سقوطهم.
ثمة نماذج تقدّم لك تجارب متنوعة فى مسألة «أكل العيش بالكذب»، بدءاً من بائع «الخضار الذى لا يتردّد فى إغراق المشترى بالأيمان الكاذبة حتى يستطيع الحصول منه على أعلى سعر، وانتهاءً بمدير الشركة الذى يمطر موظفيه بأحاديث لا تنتهى عن الخسائر التى يواجهها وتراجع المبيعات وغير ذلك، لتبرير قرار اتخذه بتخفيض المرتبات.
وما بين هذين النموذجين تجد صوراً أخرى متنوعة لكذب أكل العيش، يعرفها جيداً أصحاب الأسطوانات المشروخة التى تطرب الأذن بأكاذيب تزييف الواقع، وقلب الصور فيه، بما يؤدى إلى إحداث حالة تشوّش لدى المجموع لا تجعلهم يدركون الحقائق فى ما يدور حولهم، ولأن الغناء ألوان، فما أكثر ما تجد من تنويعات فى دنيا الأسطوانات، التى تلحن لك عبارات الكذب، وتضعها فى قالب يجتذب الأذن ويتكرّر على السمع، حتى يصدّق الإنسان ما لا يصدقه عقل، والزن على الودان أمر من السحر.
الكذب من وجهة نظر البعض قد يكون الوسيلة الوحيدة للنجاة، والمثل المصرى يقول: «قالوا للحرامى احلف قال جالك الفرج»، فالكذب يمثل فى نظر اللص -بالمعنى العام للصوصية- وسيلة للإفلات من العقاب. وهذا التصور قاصر، لأن اللص شغلته السرقة، وهو لا يضمن أن يجد من يستطيع خداعه فى كل مرة، قد يستره الله المرة فالثانية، ثم يقع فى مرة قد يكون بريئاً فيها، لكنه يؤخذ بها، ولا يجد مَن يصدقه، وعليه فى هذه الحالة ألا يلوم إلا نفسه، فنشر ثقافة الكذب يؤدى إلى أن يتشكّك كله فى كله، ولا يصدق أحد أحداً، والنتيجة فوضى عامة، يعقبها جمود.
ولكى أوضح لك النقطة السابقة، أدعوك إلى استرجاع موقف الكثيرين من طوابير المتسولين الذين يقفون فى بعض الشوارع. الغالبية لا يصدقون الفقر أو المرض أو الأعباء التى يبرّر بها المتسول طلب المساعدة، قد يكون البعض صادقاً، لكن الناس يرون أنهم كاذبون، بسبب التجربة التى تؤكد أن غالبيتهم تكذب.
اللجوء إلى الكذب مسألة بشرية، وسببه التفاوت فى قدرة بنى آدم على مواجهة الحقيقة. فالحقيقة مُرهقة ومُتعبة ولا يستطيع تحمّلها إلا أولو العزم من البشر، والحق مر، والدواء المر يحتاج إلى صبر وتحمّل، حتى يستطيع أن يعمل عمله فى شفاء المريض.. للحقيقة كلفتها، وهى أحياناً ما تصرف بعض الأفراد عنها، وتدفعهم دفعاً إلى إيثار الكذب والعيش فيه.