بقلم - د. محمود خليل
لو أنك فتشت عن مفتاح لفهم طبيعة الفكر الذي يحكم المجتمع المصري، فسوف تجده في كلمة "البرستيج". فأغلب حركات وسكنات المواطن في بر مصر محكومة بالبرستيج.
هل تذكر ذلك المشهد الذي جمع بين الفنانة صفية العمري والفنان الراحل أحمد زكي في فيلم "البيه البواب"، حين طلب منها الزواج المعلن، فرفضت وأصرت على الزواج العرفي، وقالت له: في حاجة اسمها برستيج.. فرد عليها قائلاً: البرستيج ده بكام.. وأنا أشتريه لك.
فكر "البرستيج" بدأ يظهر على استحياء خلال فترة الستينات، ثم بدأ يتسلل إلى جوانب عديدة في حياتنا، حتى فرض نفسه على كل ركن فيها خلال الحقب التالية، وكان الأساس في انتشاره تحول العيون من عيون ممتلة بالرضا والحمد إلى "عيون بصاصة"، تتطلع إلى أن تعيش في المكانة التي تحظى بها غيرها، نظراً للحظوة التي تتمتع بها على مستويات عديدة.
زمان كان العامل والفلاح والموظف الصغير قانعين بمعطيات حياتهم، ويرون جيداً ما في يدهم من نعم، يمكن أن يكون غيرهم محروماً منها، كانوا ينظرون إلى من هم أدنى منهم فيحمدون الله، لكن البوصلة تغيرت بعد ذلك وأصبحت النظرة العكسية من أسفل إلى أعلى هي السائدة فساد التطلع، واستعر البحث عن "البرستيج".
رحلة "البرستيج" في حياة المواطن -حالياً- تبدأ منذ اللحظة التي ينبت فيها في أحشاء أمه، فاختيار الدكتور الذي سيتابع "برستيج"، ونوع الولادة "برستيج"، ومستشفى الولادة "برستيج"، ولبسه ومظهره "برستيج"، والفشخرة بالمدرسة الخاصة أو الدولية التي سيدخلها ومصاريفها "برستيج"، والجامعة الخاصة أو الدولية "برستيج"، والكلية التي سيدخلها وما يتمتع به خريجوها من دخل ونفوذ "برستيج".. كل شىء بات "برستيج": السكن، والعمل، والزواج، والموبايل، والسيارة، والأكل، والشرب، واللبس.. كل شىء أصبح "برستيج".
وأقول لك أن ما يحدث على أعلى المستويات يحدث في أدناها، وكل إنسان على قدر ما تطول يده. وليس هناك خلاف على أسباب المعاناة لدى البعض، لكن هذا البعض أحياناً ما يضيف إليها أسباباً خاصة به تتعلق بالبرستيج.
هذا الفكر لابد أن يتغير لأنه هزم القيم الحقيقية المتمثلة في العلم والإنتاج والإنجاز لصالح قيم أخرى استهلاكية، تتعلق بالفخفخة، وتحصيل المال بالطرق المشروعة وغير المشروعة، وإهلاكه بعد ذلك في سبيل "البرستيج".
لو أنك زرت مجتمعاً غربياً، فسوف تجد فكراً مختلفاً يحكم الإنسان هناك، بدءاً من أعلى مسئول إلى أدنى مواطن، وهو فكر يستند إلى نظرة وظيفية للأشياء، فلا تباهي بنوع الموبايل، فالمهم أن يحقق وظيفته في التواصل مع الآخرين، أو لنوع أو موديل السيارة ما دامت تسير، ولا لشكل البيوت أو مباني المؤسسات أو القصور، ما دام من يعيشون أو يعملون بداخلها يؤدون واجبهم على النحو الأكمل.
فذلك هو المهم.. استرجع كيف يظهر رجال الأعمال هناك في ملابس بسيطة، ويتحدثون بلغة بسيطة، غير عابئين بموضوع البرستيج الذي يشغل غيرهم، فشغلهم الحقيقي هو الإنتاج والنجاح. من لا يشغله الإنتاج شغلة "البرستيج".