بقلم - د. محمود خليل
أميز ما اتسمت به شخصية معاوية بن أبى سفيان هو الوضوح الشديد مع نفسه. فقد كان يرى نفسه بعدسة مستوية، ويعلم أنه استولى على الخلافة على غير رضا أغلب الناس.ربما يكون معاوية قد حظى برضا أهل الشام التى كان يسيطر عليها الأمويون والذين أدى فيهم طيلة فترة ولايته كملك ينثر خيراته على رعيته، والناس لها من يطعمها فى فمها أو يعطيها فى يده.
وثمة قطاع آخر من المسلمين لم يكن مسيَّساً يتبنى وجهة نظر معينة فيما يتعلق بمن يحكم، ويستوى فى نظره الجميع، فقبل معاوية.فى المقابل كانت جمهرة المسلمين فى العراق واليمن وكثيرون من أهل القريتين (مكة والمدينة) ضد التغول الأموى، وكان قدامى الصحابة، وأهل المدينة قاطبة (أنصار رسول الله) يعلمون أن بنى أمية يريدون الاستئثار بالأمر، ويعرفون جيداً الأهداف التى يخطط لها «معاوية» لإحداث تحول داهم فى حياة المسلمين بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، تحول يصبح فيه حاكم المسلمين مثل الأكاسرة والأباطرة، يورث الحكم لأبنائه وأحفاده.
تشكل فى المدينة جيب تمرُّد واسع ضد «معاوية بن أبى سفيان» تزعمه أنصار رسول الله، وفى مكة تشكل جيب آخر كان أخطر من فيه هو عبدالله بن الزبير بن العوام. وفى «الدرر السنية» تجد معاوية يقف خطيباً ويقول للناس: «أما بعد، فإنى ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتى، ولكنى جالدتكم بسيفى مجالدة، ولقد رُضت نفسى على عمل ابن أبى قحافة، وأردتها على عمل عمر، وأردتها مثل ثنيات عثمان، فأبت علىَّ، فسلكت بها طريقاً لى ولكم فيه منفعة: مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة، فإن لم تجدونى خيركم، فإنى خير لكم ولاية، والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفى به القائل بلسانه، فقد جعلت ذلك له دبر أذنى وتحت قدمى، وإن لم تجدونى أقوم بحقكم كله، فاقبلوا منِّى بعضه، فإن أتاكم منِّى خير فاقبلوه، فإن السيل إذا زاد أغنى وإذا قل أغنى، وإياكم والفتنة فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة».
إنه الكلام المنمق المنسق الذى أجاده بنو أمية، كلام الساسة الذين يجيدون اللعب بالألفاظ، وتقديم أطروحات تقطر بالعسل، لكن يسكن فى باطنها الاستبداد، وترغيب الناس فى الرضا بالأمر الواقع. وإذا كانت هذه الكلمات محل ترحيب من الأجيال اللاحقة من المسلمين وشكلت بالنسبة لهم سياق مديح لمعاوية وبلاغته وحكمته وسياسته ودهائه ومكره، فإنها لم تنطلِ على جمهرة من المسلمين الذين عاصروه.
فقد ظل أهل المدينة رافضين له ولسياسته، وحين قرر الانقلاب على نظام الشورى الذى ارتضاه المسلمون أساساً لاختيار من يحكمهم، وعندما تحولت خططه إلى أمر واقع وتولى «يزيد» ولده الحكم بعد وفاته، ثار أنصار رسول الله ثورة عارمة ضد الملك الجديد، وانتهى أمر ثورتهم كما تعلم بمذبحة «الحرة» الشهيرة التى استبيحت فيها المدينة ثلاثة أيام.أضف إلى ذلك ثورة الحسين وثورة عبدالله بن الزبير، وانتهى كلاهما باستشهاد الرجلين فى عصر يزيد بن معاوية، وانتهى مشهد الثانى بهدم الكعبة فوق رأسه على يد الحجاج بن يوسف الثقفى.