بقلم - د. محمود خليل
فى ساعات السحر التى تسبق مطلع الفجر، تنشط الأسر المصرية وتنفض عنها الأغطية الثقيلة فى الشتاء، أو تنطلق مع نسمات الليل الرقيقة فى الصيف، لتعد وجبة السحور، يتوحد الجميع على «الطبلية» فى الستينات والسبعينات، ثم على المناضد أو حول الصوانى بعد اختفاء «الطبلية» لتناول سحور البركة، ثم تتعالى قرقرة المياه فى براد الشاى معلنة قرب «متعة الحبس».. فالمصرى تعود أن يحبس الطعام بالشاى.هذه الطقوس كانت -ولم تزل- تتهادى فى حياة المصريين بدءاً من الساعة الثانية بعد منتصف ليالى رمضان، وقد ارتبطت طيلة عقود بأحد البرامج الدينية الشهيرة والخالدة فى الوجدان المصرى، وهو برنامج «أحسن القصص»، ويروى قصص الأنبياء بدءاً من آدم عليه السلام.
وتعتمد مادة الحكى على الآيات القرآنية الكريمة التى تناولت حياة كل نبى بالإضافة إلى ما تختزنه كتب التفسير والتاريخ من حكايات حولهم.
ينطلق صوت المذيع مجلجلاً فى مطلع كل حلقة: «أحسن القصص» ثم ينطلق صوت محمد السبع مرتلاً الآية الكريمة من سورة يوسف: «نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن» صدق الله العظيم.. ثم يجلجل صوت المذيع قائلاً: «من وحى قصص القرآن الكريم نقدم هذه الحلقات.. يعدها محمد على ماهر.. ويخرجها يوسف الحطاب».أصوات خالدة كانت تحكى السردية الخاصة بكل نبى، من بينها محمد الطوخى الذى امتلك مهارة استثنائية فى تلاوة آيات القرآن الكريم، وعبدالرحيم الزرقانى، وكريمة مختار، وغيرهم.
تمكن البديع المبدع «محمد على ماهر» من تقديم مزيج تختلط فيه الرواية بالمسامع التمثيلية الصوتية، تتداخل معها موسيقى علوية، وأبدع فى الربط ما بين هذا المزيج المخرج المبدع يوسف الحطاب.امتلك الموهوب الراحل محمد على ماهر قدرة خاصة على نحت اللغة وتوليد الجمل بسيطة الألفاظ عميقة المعانى، الجمل القادرة على التسلل من أقصر الطرق إلى الوجدان الإيمانى للمستمع.
معادلة متكاملة من الإبداع قدمها المشاركون فى صنع حلقات «أحسن القصص» التى عالجت «قصة خلق آدم» كخليفة لله على الأرض، وقصص أنبياء الله: إدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وشعيب، وموسى، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.حلقات «أحسن القصص» مثلت واحة لنثر باقات من الحكم الإيمانية العليا التى تتحدث عن نشأة الحياة ومعنى استخلاف الإنسان على الأرض ودوره فى إعمارها، والصراع الأزلى الأبدى بين الخير والشر، والحق والباطل، وسنن الله فى الحياة، والكيفية التى يتفاعل بها البشر مع رسالات السماء.. وجبة روحية كاملة اعتاد المصريون على رشف رحيقها وهم يتناولون طعام السحور.. وجبة تبدأ برجَّة نفسية عميقة تثيرها الجملة الموسيقية الافتتاحية للحلقات وتجللها الأصوات العميقة التى تزدان بآيات الله تعالى الناطقة بالحكمة، ثم تتدفق المعانى معنى وراء معنى كالدر المنثور لتسبح فى فضاءات النفس المؤمنة.أين منا ذلك الزمان وتلك المجالس المترعة بالدفء؟