قصص معارضة «الحجاج» كانت عديدة، وعفوه عن معارضيه كان وارداً، وهى فى كل الأحوال تؤكد ذات التوجه الذى تبناه كتاب التراث فى تجميل صورة «الثقفى» الشهير،
بسبب ما التصق بشخصه من جرائم، كما تؤشر أيضاً إلى أن معاصرى الرجل لم يكونوا كلهم «موتى» يجبنون عن مواجهته، خوفاً من عقابه،
بل كان فيهم من تمكّنت الثقة بالله من قلبه، وخاف الله أكثر مما خافه، فعارضه على رؤوس الأشهاد، وعرّى تناقضاته أمام المجموع المسلم.
ومن أروع ما حكاه كُتاب السيرة فى هذا السياق ما كان من رجل عادى من معاصرى «الحجاج»، لم يذكر التاريخ اسمه، امتلك الشجاعة الأدبية، فواجه «الحجاج» بحقيقته التى كان يعلمها الجميع، على ملأ من الناس.
كان الحجاج -كما يحكى «ابن كثير»- يخطب يوماً على عادته فى الناس، وكان خطيباً بارعاً، يجيد لعبة الكلام، والطرق على أدمغة المستمعين بكلمات مبهرة،
فكان من ضمن ما قال لهم: «أيها الناس.. الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله»، كان الناس يسمعون، حين قام من بينهم رجل حقيقى فقاطعه قائلاً: «ويحك يا حجاج ما أصفق وجهك، وأقل حياءك!
تفعل ما تفعل، وتقول مثل هذا الكلام! خبث وضل سعيك».أمر «الحجاج» الحرس بالقبض على الرجل فوراً.
وكان من الطبيعى أن يفعل، بعد أن فضح حقيقته أمام الناس، هؤلاء الذين كان بعضهم ينخدع بكلماته، ويسكرون بلغته الخلابة، ومنطقه البراق، فينسون ما يفعله بهم، وما يرتكبه فى حقهم.
لم يكونوا كلهم كذلك، وإلا كيف خرج من بينهم مَن امتلك الجرأة على مواجهة «الحجاج»؟ ومؤكد أنه لم يكن يعبر عن نفسه فقط، بل عن صوت آخرين غيره، لديهم نفس الرؤية والوعى بشخصية نائب الخليفة.
واصل «الحجاج» الخطبة بعد القبض على الرجل، ولما انتهى منها أمر الحرس أن يأتوه به.
فوجّه له سؤالاً مباشراً: ما الذى جرّأك علىّ؟.
كان ذلك أهم ما يشغل «الحجاج»، إنه يعلم أن كثيرين يكنّون له كراهية دفينة، لكن أحداً لا يجرؤ على إخراجها بهذا الشكل، الذى أضاع هيبته، وقد رد عليه الرجل رداً دامغاً، فقال: ويحك يا «حجاج» أنت تجترئ على الله ولا أجترئ أنا عليك.. ومَن أنت حتى لا أجترئ عليك وأنت تجترئ على الله رب العالمين.
يختتم «ابن كثير» القصة مشيراً إلى أن «الحجاج» لما سمع من الرجل هذا الرد، طلب من الحرس أن يخلوا سبيله ويطلقوه، وذلك فى محاولة متكررة لتجميل وجه «الحجاج».
والقصة فى مجملها تشير إلى أن بلاغة القول، والقدرة على المحاججة، وقوة البيان، وتوظيف المنطق البراق، لم يكن حكراً على «الحجاج» وفقط، بل كان الكثيرون من بسطاء هذا العصر يتمتعون بالمهارات نفسها، مثلما يمكن أن نستخلص من الأداء الجدالى والحجاجى لهذا الرجل من عوام المسلمين، لكن الأهم أن نتفهم أن عصر «الحجاج»، على ما تميز به من ظلم وبطش، لم يخل من رجال امتلكوا الجرأة والشجاعة والإيمان، وجهروا بكلمة الحق.