بقلم - محمود خليل
الإشكالية فى اللخبطة الحاصلة حول واقعة الإسراء والمعراج أصلها الفارق ما بين تصورين، ينظر أولهما إلى الواقعة من زاوية النبى محمد صلى الله عليه وسلم كإنسان، وينظر ثانيهما إليها من زاوية الخالق العظيم القادر على كل شىء.
لو أنك استمعت إلى تفسير الشيخ محمد متولى الشعراوى، رحمه الله تعالى، لآية الإسراء ستجد أنه لفت الانتباه إلى الكلمة التى تبدأ بها كمفتاح لاستيعاب الواقعة التى تتحدث عنها، وهى كلمة «سبحان»، فالدخول إلى مقام فهم واقعة الإسراء يقتضى من الفرد التنبه إلى أنه يقف أمام فعل ربانى أراده الخالق القادر على كل شىء «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ».
تصف واقعة الإسراء رحلة انتقل فيها النبى -بحول الله وقوته- من المسجد الحرام (مكة) إلى المسجد الأقصى (القدس)، وهو انتقال كان يستغرق ليالى طويلة فى ذلك الوقت (حوالى 40 ليلة). فى سياق ذلك الزمان مثلت الحادثة خرقاً للواقع، لذلك لم يصدقها عرب مكة من المشركين، وارتاب فيها عدد من المؤمنين بالنبى صلى الله عليه وسلم، لأن تقييمهم لها تم على أساس النظر إلى النبى كبشر مثلهم، وقد كان بالفعل كذلك، لكنهم نسوا وحى السماء: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ».
تشكك وارتاب مَن نظروا إلى واقعة الإسراء من زاوية النبى كإنسان، ونسوا تأييده بالوحى، ولم يكن الأمر كذلك لمن نظروا إليها من زاوية الخالق العظيم، مثل الصحابى الجليل أبوبكر الصديق الذى رد على المشككين والمرتابين قائلاً: «والله لئن قال هذا الكلام فقد صدق، فوالله إنه ليخبرنى أن الخبر يأتيه من الله من السماء إلى الأرض فأصدقه».
أبوبكر الصديق كان متأملاً عميقاً للقرآن الكريم، وتعليقه على الواقعة يشهد على التفاته إلى الإيمان بقدرة الله وأن النبى بشر لكنه مؤيَّد بالوحى، لذا فقد كان تصديقه قائماً على المنطق الموضوعى والقياس المنهجى، فهو يصدق النبى حين يسمعه يتلو عليه الكلام الذى نزل من السماء، فمن البديهى أن يصدقه فى أمر شديد البساطة بالقياس إلى ذلك، يتمثل فى الإسراء به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
وينقلنا حديث أبى بكر إلى «واقعة المعراج» التى صدّقها الصحابى الجليل أيضاً بلا تردد، فمن يأتيه الخبر من السماء ويتنزل عليه كلام الله الذى عجز أهل الأرض عن الإتيان بمثله، يصح أن يخوض رحلة علوية كتلك التى يؤمن كل أصحاب الديانات بأن أمين الوحى جبريل خاضها وهو ينقل كلمة الله إلى أنبيائه الذين اصطفاهم لإبلاغ رسالته إلى أهل الأرض.
واقعة المعراج والرحلة العلوية التى هيأها الخالق العظيم للنبى توجد إشارات متنوعة إليها فى سورة «النجم»، وهى الرحلة التى بلغ فيها النبى ما لم يبلغه غيره ورأى ما لم يره سواه، لقد أراد الله تعالى له أن يرى من آياته الكبرى «مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى».
هناك خلاف على الكيفية التى حدث بها المعراج، فهناك من يؤمن أنه حدث للنبى واقعاً (جسداً وروحاً)، وهناك من يرى أنه رؤيا رآها النبى صلى الله عليه وسلم، ورؤيا الأنبياء حق، ويحتج الفريق الأخير بقوله تعالى: « وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ»، وبناء على ذلك يرون أن المعراج رؤيا منامية رآها النبى. وكلام هؤلاء يجب ألا يؤخذ على عواهنه، فطبقاً لقاعدة القرآن يفسر بعضه بعضاً ستجد إشارة لموضوع الرؤيا الذى جاء مبهماً فى الآية السابقة فى آية أخرى تتعلق بفتح مكة: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ». تحمل هذه الآية إشارة صريحة إلى أن موضوع الرؤيا اقترن بواقعة فتح مكة التى سبقها جدل كبير ثار بين المسلمين حول صلح الحديبية، وكادت تقع بينهم فتنة حين قبل النبى العودة إلى المدينة والرجوع عن دخول مكة بعد أن كان فى طريقه إلى المسجد الحرام.
أهل زمان كان لهم عذرهم حين ينكرون قطع المسافات فى ساعات أو دقائق أو ثوان لأنهم لم يعرفوا ما عرفته الأجيال المتأخرة من اختراعات ومبتكرات تكنولوجية فى النقل والاتصال والبث المباشر، وما تحقق لديهم من مفاهيم علمية تربط ما بين الزمان والمكان «الزمكان»، ومع ذلك فقد صدّق المؤمنون بالله منهم الواقعة إيماناً منهم بقدرة الخالق. العجيب حقاً هو موقف من يعيشون التحولات العلمية والتكنولوجية المعاصرة ويطنطنون بأن الإنسان قادر، رغم أنه هالك بالموت لا محالة، ولا يتواضعون للخالق القادر القدير المقتدر.. سبحان الله.