بقلم - محمود خليل
لغة النخب المعاصرة، خصوصاً من الشباب، يصح أن توصف بـ«اللغة الملخبطة»، تستطيع أن تكتشف ذلك بمجرد تحليل المنطوق أو المكتوب من كلام الشباب المعبر عن هذه النخبة سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، لتجد مفردات عربية، تختلط بأخرى أجنبية، وحروفاً لاتينية تستخدم فى كتابة الكلمات العربية، وأرقاماً تحل محل الحروف عند كتابة بعض الكلمات وهكذا.
نحن ببساطة أمام لوحة ملخبطة، تم بناؤها بأسلوب «دلق الألوان» ليأتى الشكل بعدها كيفما اتفق. ولا يخفى عليك العلاقة بين لخبطة التعبير وما يحمله من دلالة على لخبطة التفكير، إذ إن العلاقة بين اللغة والفكر علاقة أساسية.
كما لا يخفى عليك العلاقة بين النخبة والموقع، فحديثنا عن النخبة ينصرف إلى أشخاص ذوى مواقع فى الصفوف الأمامية.هذه العلة لا ترتبط بالنخبة المعاصرة فقط، بل لها جذورها لدى الأجيال المتعاقبة من النخب منذ أن عرفت مصر التعليم وحتى اللحظة، لكنها امتازت بسمات مختلفة وأقل حدة لدى الأجيال السابقة.
فنخبة الحكم قبل يوليو 1952 تكلمت «العربى المكسر»، إذ كانت التركية هى الغالبة على لغة دواوين الحكم، منذ عصر محمد على وما تلاه، وبعض حكام الأسرة العلوية لم يجيدوا مخاطبة الشعب بالعربية.
وجزء من شعبية الملك الشاب فاروق ارتبطت بتجاوزه لهذه الآفة، فرغم الفترة التى قضاها فى التعلم بالخارج، وتربيته على يد مربيات إنجليزيات، فإنه تعلم العربية، وكان مجيداً لها، وما تبقى من آثار خطبه يشهد على أنه أجاد الحديث باللغة العربية، والواضح أنه حاول تعليم أولاده «العربية» أيضاً رغم خروجهم معه من مصر فى مرحلة مبكرة من أعمارهم، لكن عربيتهم جاءت «مكسرة»، لكنها عربية على كل حال، ولا تجد فيها ألوان اللخبطة اللغوية التى تجدها لدى الأجيال المعاصرة.
حالة اللخبطة فى اللغة والتى عادة ما تقترن بها حالة لخبطة وتشوش وسيولة فى التفكير، والتى نعانى منها حالياً، تقترن بمسيرة التعليم بعد حركة يوليو 1952، ثم هى تتعلق بعد ذلك بالأدوار التى بات يلعبها أصحاب «اللغة الملخبطة»، أو الهجين ما بين العربية واللغات الأجنبية الأخرى، على منصات صناعة القرار، وإدارة الشأن العام، ودواليب الدولة.
وبعد أن كان الدفاع عن تعريب لغة المؤسسات الرسمية ضد سياسة التتريك ثم الفرنجة، وكذلك الوقوف بقوة ضد استخدام الحروف اللاتينية كبديل للحروف العربية فى الكتابة، جزءاً لا يتجزأ من مقاومة المستعمر، ظهرت أجيال تمسك فى ذيل المستعمر وكأنه «بابا وماما وكل حاجة لينا فى الدنيا».
خلال النصف الأول من القرن العشرين كان التعليم قادراً على إفراز كوادر مصرية تجيد العربية وتتحدث الإنجليزية بلا مشكلة، والدليل على ذلك هو النتاج.
فأغلب المسئولين داخل دوائر صناعة القرار فى مصر، خلال فترة الستينات، لم يواجهوا صعوبة فى مخاطبة الرأى العام المصرى بلغة سليمة، والتحدث إلى الخارج بإنجليزية معقولة، مثلهم فى ذلك مثل الأجيال التى سبقتهم، لكنَّ ماءً كثيراً جرى فى نهر التعليم، بدءاً من النصف الثانى من القرن العشرين. وبعد سنين عاشها المصريون يسخرون من أصحاب «العربى المكسر» هلَّ هلال أصحاب «العربى الملخبط».