ريتشارد فاغنر موسيقارٌ ألماني كبير، سعى للدمج بين الموسيقى والدراما، وكان شاعراً وكاتباً ومثقفاً مهماً، واسع المعرفة، وله آراء في السياسة والثقافة والتراث الشعبي، يفتخر به هتلر، وتعاديه دولة إسرائيل لكتاباته ضد اليهود بوصفه «معادياً للسامية» وهو كان يرفض أن يُسمَّى مؤلفاً «أوبرالياً» فقط، ويفضل أن يكون موسيقياً درامياً، وقد شُيدت لأعماله الملحمية دار خاصة في ألمانيا تستضيف مهرجاناً سنوياً خاصاً بأعماله في «مهرجان بايروث».
كان الفيلسوف الألماني نيتشه من المتعصبين لفاغنر، ولكنه غيّر رأيه وفلسفته في مرحلة لاحقةٍ وألّف كتابه «قضية فاغنر» وفيما بعد اعتبر هتلر أن فاغنر يمثل رمزاً للتفوق العرقي الآري ولألمانيا، وأنه «صوت ألمانيا ضد أعدائها اليهود». وبحسب موقع «روسيا اليوم» فإن اسم «مجموعة فاغنر» قد جاء نسبة لهذا الموسيقار الألماني.
«الأوركسترا» أو «الموسيقيون» هو الاسم الذي يحب قادة وعناصر «مجموعة فاغنر» تسمية أنفسهم به، وهي شركةٌ «قوات عسكرية خاصة» ضاربة القوة، وحشية السلوك، معروضة خدماتها للبيع دولياً، ويعي قادة «مجموعة فاغنر» علاقتهم بالموسيقار ريتشارد فاغنر ويعلمون من أين جاءت تسميتهم.
بعد أسبوعٍ على التمرد الغريب الذي قادته «مجموعة فاغنر» ورئيسها يفغيني بريغوجين ضد الدولة الروسية وجيشها، ودخولها الأراضي الروسية من أوكرانيا، وبعد التراجع الأغرب عن هذا التمرد في غضون يومٍ واحدٍ تقريباً، وبعد قبول الرئيس بوتين لذلك التراجع والسماح لقادة «فاغنر» بالذهاب إلى بيلاروسيا ورئيسها لوكاشينكو المقرب من بوتين، لم تزل الأسئلة أكثر من الأجوبة، وعلامات الاستفهام والتعجب ترتسم على المشهد برمته كلياتٍ وتفاصيل، وهو ما يؤكد ما كتبت في هذه المساحة قبل أسبوعٍ وأنه «ما زالت الأحداث ساخنة وتتطور وتتلاحق بصورة سريعة، ولم تتشكل لها صورة واضحة بعد... وتظل الأسئلة أكثر من الأجوبة».
السيناريوهات التي كانت مطروحة قبل أسبوعٍ كانت إما أنها حركة انقلابيةٌ ضد الجيش الروسي وقيادته وبالتالي ضد الدولة الروسية لأسباب داخليةٍ وأيد ذلك تصعيد قائد «فاغنر» ضد الرئيس بوتين أو بدعمٍ خارجيٍ وهو ما سارعت أميركا والدول الغربية للتبرؤ منه، ويؤكد تلك البراءة التراجع السريع لقائد «فاغنر» عن التمرد، وإما أنها حماقة تنتمي لحماقاتٍ عسكرية طويلة الذيل في تاريخ روسيا وتاريخ العالم بأسره، والجديد اليوم هو الطرح بأنها كانت حركةً مدبرةً من «موسكو»، وبالتوافق بين بوتين وبريغوجين ولوكاشينكو، وهم ثلاثة أصدقاء مقربين لبعضهم البعض.
هذا السيناريو الثالث يحدث مثله في التاريخ وفي استراتيجيات الدول العظمى الحديثة، ولكنه يحتاج قدراتٍ وانضباطاً وصرامةً لا تتمتع بها المؤسسات الروسية حالياً، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى فهذا التمرد هو أقسى ما واجهته روسيا خلال عقدين من الزمن حيث أظهرها وللمرة الأولى كدولةٍ مفككةٍ مهترئةٍ يمكن اختراقها بسهولة وهو العكس تماماً لكل ما عمل الرئيس بوتين لاستعادته من صورة «روسيا العظمى» التي كان يريد لها أن ترث كل مجد «الاتحاد السوفياتي» السابق و«روسيا القيصرية».
وهذا تحديداً ما بدأت تتجه نحوه تصريحات المسؤولين الغربيين، من أن الخوف هو من ضعف روسيا وليس من قوتها، وقد نشرت هذه الصحيفة يوم أمس ما قاله جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، الذي قال: «حتى الآن كنا نعد روسيا تهديداً للأمن الأوروبي؛ لأنها قوة عسكرية تم استخدامها من غير مبررٍ ضد أوكرانيا. أما الآن فقد أصبح لازماً التعامل معها بوصفها خطراً بسبب زعزعة الاستقرار الداخلي فيها» واعتبر «أن بوتين ضعيفاً هو أكثر خطورةً»، وأن «فقدانه السيطرة الكاملة على النظام قد يدفعه إلى شن هجمات عسكرية كثيفة على أوكرانيا».
مشكلة التطرف اليساري الليبرالي الأميركي والغربي عموماً أنه أفقد الثقة في بعض المصادر الحقوقية والإعلامية هناك، فأصبح أخذ المعلومات منها في أحداث كبرى مثل ما جرى في روسيا الأسبوع الماضي موجباً للحذر والتأني، وقد شهدنا تسرعاً في تغطية تلك الأحداث وتخبطاً في تأويلها، وهو أمرٌ ظهر وإن كان بشكل أقل في المواقف السياسية المتحفظة غربياً والتي بدأت في الاتزان، وهذه إحدى مشكلات إحراق صحفٍ ووسائل إعلامٍ أميركية رصينة في محرقة آيديولوجيا اليسار الليبرالي المتطرف يمكن رصد تطورها منذ إدارة أوباما مروراً بعهد ترمب وتجلى في عهد إدارة بايدن.
«مجموعة فاغنر» كما هو معروفٌ هي شركةٌ تجاريةٌ تدير مجموعة عسكرية محترفة في الحروب، وهي استثمارٌ روسيٌ ولها شبيهاتٌ في أميركا وبريطانيا وغيرهما، وأحد الأسئلة المعلقة هو عن مصير هذه المجموعة؟ أما في روسيا فمصيرها واضح نحو التفكيك وتوزيع مقاتليها داخل الجيش الروسي وطرد بعض قياداتها وعناصرها إلى الخارج مثل الألف مقاتل الذين اتجهوا مع قائدهم إلى بيلاروسيا، ولكن السؤال هو عن مصير هذه القوات في سوريا وليبيا وبعض الدول الأفريقية؟ وقد أجاب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالقول إن مصيرها مرتبط بقرار الدول التي تعمل فيها، وهو جوابٌ يظهر عدم اتضاح الصورة بعد لدى صانع القرار الروسي تجاه «قوات فاغنر».
الاعتراف بالغموض في قراءة بعض الأحداث المعقدة والمتشابكة والغريبة أفضل بكثيرٍ من الانسياق خلف الخرافات أو التفكير التآمري الذي يسيطر على كثير من العقول في قراءة السياسة في العالم العربي، وبمجرد الدخول في ذلك النوع من التفكير تتناسل «نظريات المؤامرة» من كل شكل ولونٍ من دون رقيبٍ ولا حسيبٍ، وهذا خطرٌ على العقلانية والواقعية في قراءة السياسات والصراعات الدولية، خصوصاً في لحظات التحول الكبرى مثل التي يشهدها العالم في هذه المرحلة الزمنية المهمة.
صناعة الأسئلة فنٌ رفيعٌ تقوم عليه كثيرٌ من العلوم المهمة، ومنها علوم الفلسفة بتفرعاتها وعلوم السياسة والاجتماع وغيرها، والسؤال الذكي المصوغ باحترافيةٍ أهم في كثير من الأحيان من صياغة الإجابات الناقصة أو المنحرفة مهما بدت متماسكةً ومقنعةً وذات معنى.
أخيراً، فروسيا تختلف كثيراً، تاريخياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً عن أوروبا، ومن يريد فهمها يحتاج لقراءات معمقةٍ تنير له تلك الاختلافات وتوضح الفروق وتكشف التفاصيل، هذه واحدةٌ، والثانية أن الاعتماد على المصادر الغربية في تلك القراءات محكوم عليه بالفشل بسبب الانحيازات السياسية والآيديولوجية التي تمنع من الرؤية الواضحة والتحليل الأقرب إلى الصواب.