بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي
لبنان بلدٌ استمرأ الفوضى والخراب منذ الحرب الأهلية سيئة الذكر حتى سيطرة الميليشيا وموجة الاغتيالات لرفيق الحريري ورفاقه، ومن ثم إحكام الميليشيا سيطرتها على الدولة والحكومة ومجلس النواب وكل شيء في البلد المليء بالآلام والرزايا.
انفجار مرفأ بيروت مخيف في قوته وآثاره التي يمكن الشعور بها من خلال الصور ومقاطع الفيديو التي انتشرت في حينه، وهو دون شك أكثر إخافة للمواطنين الذين عايشوه على أرض الواقع، والذين فقدوا أحبابهم وفُجعوا بممتلكاتهم ورأوا الموت رأي العين، وما كان لذلك أن يحدث لو كان لبنان دولة مستقلة ذات سيادة مثل باقي الدول، ولكن لبنان للأسف ليس كذلك.
قصة هذا البلد المنكوب طويلة ومتشعبة ومعقدة، وهي قصة تروي كيف يمكن تحويل بلدٍ ما من أجمل بلدان المنطقة إلى دولة مختطَفة تفتك بها الميليشيات وينهبها الفاسدون من دون حياء أو خجل، قصة تروي كيف تحوّل وطن بكامله إلى معتقلٍ بائسٍ بيد ميليشيا، وكيف بدأت تتحول صورة اللبناني في المنطقة والعالم من مهاجرٍ مكافحٍ ناجحٍ إلى ما يشبه اللاجئ المشرد، باقتصادٍ شبه منهارٍ وأحزابٍ وقياداتٍ تعيش مرغمة تحت رحمة الميليشيا والسلاح والآيديولوجيا والاغتيالات.
تدفقت المساعدات من الدول العربية ومن شتى دول العالم لإنقاذ الشعب اللبناني من الكارثة التي حلّت به، وفتحت دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، جسراً جوياً لنقل المساعدات العاجلة، وهو ما دأبت عليه دول الخليج منذ عقودٍ، وهو أمرٌ يعرفه اللبنانيون جيداً. بينما البلد الوحيد الذي لم يساعد بأي شيء هو البلد الأصولي الطائفي الذي نشر الدمار والخراب في لبنان.
التصالح مع الإرهاب غير ممكن، وهو لا يكتفي بتدمير بلده، بل يحوّله لمركزٍ دولي لتصدير الإرهاب، وهكذا فعلت حركة «طالبان» في أفغانستان، وحزب «الإخوان المسلمين» في السودان من قبل، وهكذا فعل ويفعل «حزب الله» في لبنان والحوثي في اليمن والميليشيات المتعددة الأسماء في العراق وسوريا، وقد يكون هذا الحادث الخطير منبهاً يجبر دول العالم على التدخل في لبنان وحمايته من الميليشيا التي تحتله وتسوقه إلى الهلاك، تحت مرأى ومسمع مواطنيه، من دون أن يكون لهم أي دورٍ في الموافقة أو الرفض.
كان لبنان يسمّى «سويسرا الشرق» قبل عقودٍ، وكان محجّاً للمصطافين وقبلة للسياح ورمزاً للتقدم والانفتاح في المنطقة بأسرها، وكان يعجّ بالمثقفين والمفكرين وكانت له أدوارٌ لا تُنسى في صناعة الإعلام والنشر على مستوى العالم العربي بأسره، وقد أصبح، بعد عقودٍ من المكر والكيد والمؤامرات، دولة ميليشيا لا قيمة لها في توازنات المنطقة، تقودها قياداتٌ تتنافس في الفساد الذي يبدو ليله طويلاً، ويكفي مراقبة ردود فعل المسؤولين بعد هذه المأساة، بحيث بدأوا من أول لحظة بعد الانفجار في التنافس على الحصول على الحصة الأكبر من المساعدات لتوزيعها على الفاسدين، لا لخدمة الوطن والمواطن ولا لتعمير البلد، وكم كان الطريق طويلاً وبشعاً لتحويل « سويسرا الشرق» إلى ما يشبه حياً بائساً في ضواحي طهران الطائفية.
ميليشيا «حزب الله» هي ميليشيا مصنَّفة إرهابية في العديد من الدول العربية، وقد بدأت دول غربية، كألمانيا، ودول في أميركا الجنوبية، حيث نشاط الحزب الكبير، ودول في أفريقيا، في تصنيف الحزب إرهابياً، أو الاتجاه نحو ذلك، وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المواطن اللبناني المغلوب على أمره عجز تماماً عن التخلص من هذه الهيمنة الإرهابية، وذهبت مظاهرات الشباب وهتافاتهم في المدن اللبنانية وساحاتها قبل أشهرٍ أدراج الرياح؛ لأن الدولة كلها رهينة لدى الميليشيا وخاضعة بشكل كامل لإرادة الحزب وأهدافه الإرهابية.
كان مثيراً حدّ العجب مطالبات بعض المواطنين اللبنانيين للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن يعيد الاحتلال الفرنسي إلى لبنان من جديد، وهو أوضح مؤشرٍ على أن البشر يفضلون حكم الأجنبي المحتل على حكم المواطن الإرهابي المؤدلج، ولئن أراد ماكرون، الرئيس الوحيد الذي زار لبنان بعد الانفجار، أن يساعد لبنان بصدقٍ؛ فعليه أن يسعى لحشد موقف دولي يقيد الميليشيا ويحاصرها ويضعفها، ويفتح للدولة اللبنانية ومواطنيها كوة أملٍ في استعادتها وافتكاكها من الاختطاف الطويل والمعلن.
عند التأمّل في مطالبات بعض اللبنانيين لماكرون بإعادة احتلال لبنان؛ فهي ليست غريبة على المشهد هناك، فقائد الميليشيا قال صراحة قبل سنواتٍ إنه تابعٌ كلياً لدولة أجنبية محتلة ذات مشروع إقليمي، وإن حزبه ومعاشاته وأكله وشربه من الجمهورية الإسلامية في إيران، فمواجهة محتل أجنبي بمحتلٍ آخر تخفف من غرابة المشهد وتمنحه منطقاً.
لو كان «حزب الله» وحلفاؤه حزباً سياسياً مدنياً لكان خياره الأفضل في أزمة بهذا الحجم هو الانحناء للعاصفة والتخلي عن سلطته المطلقة حتى تحين ساعة العودة، ولكنه ليس كذلك، بل هو ميليشيا مؤدلجة تعتقد أنها تمثل الله والدين والمذهب، ويجب أن تخضع الناس بالقوة والعنف والإرهاب لما تريد وما يريد صانعها ومرشدها الأعلى، وما لم يكن ثمة موقف دولي ضاغطٌ فعلياً على هذه الميليشيا؛ فلن يتغير أي شيء بلبنان في المدى المنظور.
حلفاء ميليشيا «حزب الله» في لبنان يتحملون مسؤولية كبيرة وخطيرة عن تدمير بلادهم وتسليمها للميليشيا، بحيث قدّموا كمسيحيين غطاءً دينياً وطائفياً للحزب وإرهابه، تحت فكرة الدين الأقلوي الخائف، أو تحالف الأقليات، أو غيرها من الأفكار السخيفة التي اتضحت نتائجها للعيان منذ عقودٍ. وما هذا الانفجار المرعب إلا حلقة في سلسلة طويلة لم تنقطع، وهي مرشحة للاستمرار، ما لم تجرِ في ساقية لبنان مياه وسياسات مختلفة.
لطالما أحب العرب فكرة لبنان المتحضّر المنفتح، لبنان التعايش والتسامح والعيش المشترك، لبنان الثقافة المختلف عن محيطه، ولكنّ أحداً لا يحب أن يتحول بلده إلى لبنان المعاصر، لبنان الميليشيات ولبنان الإرهاب ولبنان الاقتصاد المنهار والفقر المدقع ولبنان «استقرار الفوضى».
يجب على المواطنين اللبنانيين التخلي التام عن القيادات والزعمات التي قتلتها المصالح الشخصية والأمجاد الذاتية، وأن يقتنعوا، ولو مرة، بأن الاصطفاف خلف هذه الزعامات لن يحميهم ولن يحقق مصالحهم، بل الدولة القوية هي التي تفعل ذلك وأكثر، وما لم تشعر تلك الزعمات بالتهديد من قواعدها الشعبية فلن تجد مبرراً للتغيير.