نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، مزّقت على الهواء مباشرة أوراق نسخة من خطاب حالة الاتحاد، الذي ألقاه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الأسبوع الماضي، في حادثة غير مسبوقة، جاءت بعد فشل الديمقراطيين في عزل الرئيس لأسبابٍ غير منطقية ولا واقعية.
بلغ الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين أشده، مع بداية رئاسة ترمب، وقام الديمقراطيون بتصعيد مواقفهم ضد الرئيس، بالتحالف مع وسائل الإعلام التي تعبر عما يُسمّى باليسار الليبرالي، وهو اتجاه آخذ في التوسع داخل الحزب الديمقراطي ويشمل العديد من الفنانين والمشاهير، فهل ترمب هو المشكلة فقط أم أن هذه المشكلة لها جذور أعمق؟
ترمب ليس استثناء في سياق الرؤساء الأميركيين منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، على الرغم من أنه عالي الصوت وصاخب المواقف، وهو أعلن التحدي من أول يومٍ لكل تركة سلفه باراك أوباما، الذي يرى ترمب أنه دمَّر أميركا وشوَّه سمعتها وسعى لإضعافها دولياً، فتحدَّى الديمقراطيين ووسائل الإعلام الكبرى الموالية لهم وكل الفنانين والمشاهير الداعمين لهم بلا استثناء، وركز جهوده على التواصل مع ناخبيه وداعميه عبر وسيلة التواصل المعروفة، «تويتر».
والسؤال هنا هو: هل كان أوباما هو الاستثناء؟ والجواب الأقرب هو أنه كانَ استثناء بالفعل، فرؤية أوباما لأميركا والعالم كانت مختلفة تماماً عمن سبقه من الرؤساء من الحزبين في العقود المتتابعة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فهو كان يتبنَّى منهج الانسحابية والانعزالية، وأنَّ أميركا يجب ألا تتدخل في مشكلات العالم، وكان يرى أن التحالف مع خصوم أميركا أو الخضوع لهم هو المخرج الأفضل، فسكت عن روسيا، ووقَّع الاتفاق النووي مع إيران، وكان يرى أن وصولَ جماعة الإخوان للحكم هو الحل، وهي الرؤية التي اتضح اليوم من دون شك فشلها الذريع، بل والكارثي.
الذي اتضح بعد فوز ترمب بالرئاسة وهزيمة هيلاري كلينتون هو أن قيادات الحزب الديمقراطي قد تبنّوا الرؤية الأوبامية بكل اختلافها عن السياق الطويل في التنافس بين الحزبين، ولم يستوعبوا، وهم يرون أنفسهم نخبة فوق الناس، أن يهزمهم رجل أعمال ناجح من دون خبرة سياسية، فاستهانوا به، وهاجموه، وناصبوه العداوة لهذا السبب، ولأنه أعلن وعمل جهده للقضاء على كل إرث أوباما الذي ينتمون لها بشدة.
أخرج الرئيس ترمب مقطع فيديو كدعاية جديدة لترشحه لولاية ثانية، نهاية هذا العام، يتحدث المقطع أن ترمب سوف يحكم أميركا لعقود وقرون مقبلة، وللمفارقة، فإن إعلان ترمب الطريف هو منهج الحزب الديمقراطي الحالي الذي يريد أن يخلّد الرؤية الأوبامية.
كتب كاتب هذه السطور في هذه المساحة أثناء ولاية أوباما الثانية أن أميركا ستنتخب رئيساً قوياً وصارماً يغسل ضعف أوباما وانعزاليته، ويعيد لأميركا مكانتها الدولية المستحقة، وقد حصل وجاء الرئيس ترمب ليصبح رئيس أقوى دولة في العالم.
على عكس أوباما الضعيف، فقد كانت سياسات ترمب الخارجية صارمة وناجحة في التعامل مع حلفاء أميركا، كما في التعامل مع خصومها، فبدلاً من الخضوع لإيران، أوقع ترمب أقسى العقوبات على النظام الإيراني، بوصفه أكبر دولة داعمة للإرهاب في العالم، وقد بدأت هذه العقوبات تؤتي أكلها بالفعل، ووقعها سيكون أشد في السنوات المقبلة، فالعقوبات الدولية تزداد بالتراكم الزمني، فتقوى وتشتد.
أما في ملف الإرهاب، فقد قضى ترمب على تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، في مناطق التي كان يحكمها لسنواتٍ من حكم أوباما، وقام بقتل المجرم أبي بكر البغدادي الذي كان يقدم نفسه خليفة للتنظيم، وأكثر من هذا أنه أمر بقتل وتصفية رأس الإرهاب العالمي المعاصر الإيراني قاسم سليماني الذي يعتبر البغدادي مع كل شروره واحداً من جنود سليماني.
مواقف الديمقراطيين الأوباميين غريبة بالفعل، فهم من سعوا لإنجاح إلهان عمر للحزب، وهم يدافعون عن إيران ونظامها الإرهابي بشكل غير متزنٍ، وهم يستنكرون قتل الإرهابي الأكبر في العالم، قاسم سليماني، والأغرب من هذا كله أن تخرج نانسي بيلوسي لتدافع عن النظام الإيراني، وتهاجم الشعب الإيراني، وهذا الشعب المحكوم بأعتى ديكتاتورية هتلرية في المنطقة سيتذكر يوماً كيف انحاز الديمقراطيون لقاتليه ومعذبيه، على مدى أربعين عاماً.
فيما يتعلق بمصالح دول الخليج العربي، فمن دون شكٍ أن إدارة ترمب أقرب لنا من إدارة سلفه، وخلافه مع الديمقراطيين داخل أميركا شأن يهم الأميركيين، وليس مصالح دول الخليج فحسب، بل مصالح الدول والشعوب العربية التي عاثت فيها إيران فساداً وتخريباً ودماراً، كلها تقف مع ترمب ضد إيران، ويكفي قراءة المشهد الحالي في العراق وسوريا كما في لبنان واليمن، حيث بلغ السيل الزبى بهذه الشعوب من الاحتلال الإيراني المدمّر.
مما زاد من حنق الديمقراطيين الأوباميين على ترمب النجاحات المذهلة التي حققها على المستوى الداخلي، فهي أرقام غير مسبوقة، بحسب تعبير ترمب، وناجحة، بحسب جميع المراقبين، وقد بدا الغيظ واضحاً على هؤلاء النواب أثناء تعداد ترمب لنجاحاته، في خطاب الاتحاد المذكور أعلاه.
السعودية ودول الخليج والدول العربية المعتدلة كلها تؤيد رؤية ترمب واستراتيجيته الكبرى في العالم، خصوصاً أن بعض هذه الدول والشعوب قد اكتوت من انتشار الفوضى والإرهاب في ظل الإدارة السابقة، سواء كان ذلك بتخطيط أم كان مجرد غباء سياسي، وقى الله الكثير من شروره.
كان الرئيس روزفلت يرى بوضوح خطر النازية المتنامي في أوروبا، وجنون هتلر وعربدته في القارة العجوز، وكان يريد التحضير للمواجهة، ومن هنا فقد بدأ في مواجهة تيار الانعزالية داخل أميركا حتى «صرّح في صيف عام 1940 معتبراً أن مفهوم انعزالية أميركا (كبلد وحيد في عالم تهيمن عليه فلسفة القوة) وهم واضح»، («القياصرة الأميركيون»، ص45).
وللمفارقة، فالرئيس التاريخي العظيم لأميركا روزفلت الذي قضى على الانعزالية وهزم النازية هو رئيس ديمقراطي، والرئيس الذي أعاد تبني الانعزالية، أوباما، هو أيضاً ديمقراطي، وقد انتصر الأول انتصاراً تاريخياً غيّر مسار التاريخ، بينما توالت هزائم الثاني وفشلت رؤيته، وإن لم تكتمل بعد.
أخيراً، فحلفاء أميركا لا يتدخلون في شؤونها الداخلية، ولا تعنيهم كثيراً الخلافات بين الأحزاب هناك؛ فهم يتعاملون مع الدولة وليس مع الأحزاب، ولكن المراقب يستطيع تمييز الفروق بين التوجهات السياسية المفيدة والضارة بالنسبة لنا في المنطقة.