الوباء خطرٌ داهمٌ يخشاه البشر جميعاً، فهو لا يفرق بين كبير وصغير ولا غني وفقير، بل يجتاح العالم ويغير توازناته وقواه المتصارعة في جميع المجالات، لأنه بكل بساطة يستهدف الإنسان في صحته وفي حياته؛ بالمرض والموت.
أخطر البشر في زمن «الكورونا» هم الذين لا يلتزمون بالتوجيهات الصحية من حكوماتهم أو من المنظمات الدولية، لأنهم هم الناقل الخطير للفيروس، الذي يستهدفون به أبناءهم وآباءهم وأحبابهم والمجتمع بأسره. وشخصٌ واحدٌ غير ملتزمٍ هو أداة لنقل الفيروس للعشرات والمئات والألوف.
الانعزال متعة لقلّة من البشر يستطيعون الاستفادة منه، ولكنه في الوقت نفسه صعبٌ وشديد على نفوس الأكثرية من الناس، فالإنسان، كما يقال، مدني بطبعه، يأنس بالآخرين ويأنسون به، وبالتالي فدافعه للعزلة إما أن يكون الوعي العميق، وإما أن يكون الجبر وقوة الدولة. والمجتمعات التي ترفض الأول ستجد نفسها خاضعة للثاني دون شكٍ، والهلاك الجماعي ليس خياراً لعاقل.
الوباء في ذاكرة البشر مرتبطٌ بالألم العميق والحزن المقيم، فهو الهلاك المحتم الذي يفرّق البشر شذرَ مذرَ، وينثر المآسي في كل مكانٍ يحل فيه. وكتب التاريخ البشري لدى الأمم جميعاً مليئة بعرض تفاصيله والدمار الذي يسببه للناس، ومن هنا كانت الكتابة عنه أحد فنون الأدب التي تسعى لمحاكاة وعرض آلام البشرية، وقد كتب عنه الكثير في العديد من الثقافات، ومن ذلك ما كتبه الروائي الكبير الحاصل على جائزة نوبل غابرييل غارسيا ماركيز، في روايته الشهيرة «الحب في زمن الكوليرا»، وكذلك ما كتبه الأديب الفرنسي الحائز جائزة نوبل (كذلك) ألبير كامو، في روايته «الطاعون»، وعشرات الكتب في العديد من الثقافات التي تتناول الموضوع ذاته.
يتذكر كاتب هذه السطور فيلماً تم إنتاجه في هوليوود، عام 1995، باسم آوت بريك (outbreak)، وكان يتناول قصة وباء انتشر في أفريقيا، ووصل للولايات المتحدة، وتدور أحداث الفيلم عن الصراعات التي جرت لمواجهته بأبعادها العسكرية والسياسية والاجتماعية، وصولاً لإنتاج اللقاح الواقي منه، وهو أقرب ما يكون لما يجري في العالم اليوم لمواجهة فيروس «كورونا» المستجد.
الدراما عنصر بالغ الأهمية في نشر الوعي بين الناس بكل طبقاتهم وتخصصاتهم، ذلك أنها تتوسل الجمال والمتعة لإيصال الرسائل التي يجب أن تصل للجميع، ويكفي للدلالة على هذا الأدوار التاريخية التي لعبتها الدراما في نشر الوعي تجاه العديد من الأحداث الكبرى التي مرت بالعالم، ويكفي استحضار دور الدراما العالمية في مواجهة وباء الإرهاب في العقود القريبة الماضية ومدى التأثير الرائع الذي سببته.
الأدب والدراما وجميع الفنون يجب أن تتعاضد لتوعية البشرية بهذا الخطر الداهم، الذي يؤكد المسؤولون حول العالم على خطورته وضرورة مواجهته وشنّ الحرب عليه، ومن ذلك تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون بأن هذه الحرب لا تزال في بدايتها.
شركة «نتفليكس» التي غيرت مفهوم الإنتاج الدرامي في العالم، وخلقت بعداً تجارياً جديداً للدراما لحق بها منتجون آخرون بمنصاتٍ مشابهة لها تعرض في هذه الفترة سلسلة وثائقية من ست حلقاتٍ باسم «الوباء»، تم إنتاجها هذا العام (2020) تتحدث عن وباء انفلونزا عالمي يجتاح العالم، وعن الجهود الصحية لمواجهته، بما يشبه تماماً ما يجري في العالم اليوم.
عربياً، ينبغي أن تشارك الدراما في المواجهة بشكلٍ أو بآخر، غير أن هذا الأمر شبه مستحيلٍ في هذا الوقت، فالفيروس هاجم من ضمن ما هاجم صناعة الدراما نفسها حول العالم، وقد توقف إنتاج العديد من الأعمال، وبالذات الأعمال العربية، إذ لم يتبقّ على أهم موسم درامي عربي، وهو شهر رمضان، إلا ما يقارب الشهر، وقد توقف الإنتاج في الغالبية العظمى من الأعمال الدرامية بقوة وخطوة الفيروس وقوانين مواجهته.
سياسياً، وبعد انتشار الفيروس في الصين، اتخذت الدول حول العالم مسلكين رئيسيين: الأول يتمثل في المواجهة الحاسمة معه، واتخاذ جميع الإجراءات للمواجهة بقراراتٍ سريعة للوقاية منه ورعاية المواطنين والمقيمين وحمايتهم وتوفير جميع الخدمات لهم، والثاني الاستهانة به، وتغليب المصالح الاقتصادية عليه أو عدم الاكتراث به، فنجحت الدول التي سلكت المسلك الأول، ومنها السعودية والإمارات، وفشلت الدول التي سلكت المسلك الثاني، فأصبحت بؤراً جديدة للوباء عالمياً، ومنها إيران وإيطاليا وألمانيا.
لقد أثبت هذا الوباء أنه قادرٌ على تغيير العالم بشكل سريع؛ فعقودٌ من الانفتاح العالمي وتطور وسائل المواصلات والاتصالات، وتحول العالم إلى قرية صغيرة، ضربها فيروس «كورونا» في أشهرٍ معدودة، فأغلقت أغلب الدول، وعطّلت وسائل المواصلات الدولية والمحلية، وأصبحت العزلة إما اختيارية وإما جبرية على الجميع، لأنه لا سبيل للمواجهة غير هذا.
الأوبئة تكون أحياناً نتيجة للسياسة أو للمجتمع أو للثقافة، بينما بالمقابل تكون السياسة نتيجة للأوبئة وقوتها وانتشارها وخطورتها، فطبيعة الأغذية وعادات المجتمع وقوانين الدول قد تسبب الوباء، وعادات الناس وثقافاتهم قد تسبب انتشاراً واسعاً له، ومن ذلك المصافحة أو العناق أو التقبيل المباشر، وكذلك التغيير الكبير الذي يجري في العالم اليوم، دليل واضح على أن الوباء يفرض شروطه على السياسة والاقتصاد، وهو يغرق بعض مجالات الاقتصاد، ويفتح سوقاً جديدة لسلعٍ مختلفة.
في مثل أجواء الخوف من الفيروس يغرق البعض في الخرافات، فحين يتجه البعض إلى نظريات المؤامرة التي ينسجها كلٌ بحسبه، فإن الغالبية تلجأ للخرافات الدينية التي قد تبيد المجتمعات حين يرفضون التوجيهات الصحية العلمية، وهذا أمرٌ خطيرٌ على الأديان نفسها حين ينصدم الناس في أديانهم، بسبب التفسيرات الخاطئة التي ستقتلهم بشكلٍ شنيعٍ.
قبل بضع سنواتٍ، تحدث بيل غيتس في محاضرة متلفزة عن أن الخطر الحقيقي الذي يهدد البشرية لم يعد القنابل النووية، بل الأوبئة، ولم يعد الصواريخ، بل الفيروسات، وأن العالم ليس مستعداً بعدُ لمثل هذه المواجهة، وهذا ما أثبته الواقع اليوم بحذافيره، للأسف.
أخيراً، وللمفارقة، فقد تحدث الملك سلمان بكل وضوح وصراحة بأن الدولة ستبذل الغالي والنفيس في وقاية وحماية ورعاية المواطن والمقيم في مواجهة هذا الوباء، كما تحدث الشيخ محمد بن زايد عن نفس الهدف والغاية، في الوقت الذي كان فيه بعض زعماء أوروبا يتحدثون عن أن الناس يجب أن يستعدوا لفقد أحبابهم.