الإنسان عدو ما يجهل، لا تشغل بالك كثيرًا بمَن هو قائلها، ربما على بن أبى طالب، (كرم الله وجهه،) كما تقول المراجع أو غيره من هؤلاء القادرين على القراءة الصحيحة للنفس البشرية. علينا التوقف أمام عمقها لأنها بالفعل حقيقة عابرة للأزمنة، تقرؤنا جميعًا عندما نشرع فى التعامل مع أى جديد يطرق باب الحياة.
السينما هى أكثر الفنون التى تطبق تلك القاعدة، سواء أدرك صُناعها ذلك أم لا، هناك دائمًا فى أى عمل فنى طرف آخر يرسم ملامحه ويحدد قانونه، إنه المتفرج- دافع التذكرة- الذى ينبغى اكتساب رهانه، على ما نعتقد أنه يريده، والمعادلة تبدأ بنجم صار يتوق لمشاهدته، بمجرد قراءة اسمه على (الأفيش) لا يتردد فى الذهاب إلى السينما، وتأتى بعد ذلك حالة يعيشها المجتمع، ثم إطار سينمائى يتبنى تلك الأفكار، بأسلوب يستطيع الجمهور التعامل معه، والانجذاب إليه.
لدينا فيلمان احتلا ذيل سلم الإيرادات هذا الأسبوع، أحدهما يراهن على أن يقدم نفسه للجمهور، بوجهة نظر مغايرة للسائد، وأبطال ليسوا من نجومه المتعارف عليهم، (البحث عن منفذ للسيد رامبو)، للمخرج خالد منصور، حيث تحمل الشاشة قضيته وزمنه وإيقاعه وحياته وأحلامه وكوابيسه، لديه مفردات خاصة فى الإطلال على قضيته، يدرك أن اللغة السينمائية قد تغيرت (أبجديتها)، سنجد أمامنا مشروعًا اقتصاديًّا موازيًا، منتجة شابة، وبدأت فى التواصل مع العديد من جهات الإنتاج الداعمة لتلك الأفكار الخارجة عن الصندوق المتعارف عليه، الصحفية والناقدة السينمائية رشا حسنى، وأيضًا أحد أهم المنتجين على الساحة العربية، محمد حفظى، الذى يدرك بالضبط أين يتوجه المؤشر، وما الفيلم الذى يستحق الرهان عليه.
خالد منصور، فى أولى تجاربه الروائية الطويلة، إلا أنه يقدم شاشة ناضجة ونابضة بمفردات السينما، حتى الوجوه التى تحتل الشاشة، بعضهم لأول مرة مثل أحمد بهاء، وهناك الممثلة ركين سعد وجه لا بديل له فى هذا الدور، عصام عمر البطل، قدرة على تقديم التباين فى الإحساس الذى يصل إلى حد التناقض، بين الشجاعة والخوف، الإقدام والإحجام، لم يتحقق بعد التماسّ مع جمهور السينما كنجم جاذب، رغم خطواته الثابتة وتألقه التليفزيونى، إلا أنه يقف مؤكدًا على الطريق وفى مقدمة النجوم القادمة، ثم الكلب رامبو وهما فى الحقيقة كلبان تبادلا البطولة، قطعًا هناك مخرج ومدير تصوير ومونتير، كل هذا يتم توظيفه جيدًا ليشيد بعدها الجميع بالكلب الموهوب (رامبو) الذى يحتل المساحة الكبرى على (الأفيش)!.
الفيلم سبق أن تناولته فى تلك المساحة قبل نحو الشهر عقب مشاركته فى مهرجان (البحر الأحمر)، حيث نال جائزة لجنة التحكيم، ثم أعقبه (قرطاج) بتنويه من لجنة التحكيم، وكانت بداية انطلاقه من مهرجان (فينسيا) فى سبتمبر الماضى، ورغم ذلك يظلمه توصيف (فيلم مهرجانات) بالمعنى السلبى المتعارف عليه، الذى يضع خيطًا فاصلًا بين الفيلم والجمهور، مؤكد به لمسة جماهيرية، أشبه ما تكون من فرط توظيفها الجيد بالهمسة، قادرة مع الزمن على اكتساب دائرة جماهيرية أوسع، حتى لو تضاءلت أمامها الفرص فى اللحظة الراهنة، فإن الزمن لصالحها.
على الجانب الآخر لدينا (المستريحة) إخراج عمرو صلاح، يتصدره نجمان بينهما كيميائية ونجاح سابق ليلى علوى وبيومى فؤاد.
السينما المصرية بطبيعة تكوينها، الذى ازداد جنوحًا فى السنوات الأخيرة، تتوجس خيفة من أى تغيير، وأصحاب دُور العرض يتحرجون من فتح الشاشات لكل ما هو خارج الجدول الذى يطبقونه حرفيًّا.
أحترم دائمًا إرادة الجمهور وذائقته فى التلقى، وعلينا معرفة أسباب الإقبال أو الإدبار، المفاجأة لم تكن أبدًا فى الأرقام التى حققها (رامبو) الخارج عن السياق ولكنها مع (المستريحة)، الذى يقدم بالضبط السياق المتعارف عليه، ليُحيلنا إلى مَن أطلقوا عليه اسم الشهرة (المستريح)، الذى ظهر فى صعيد مصر ونصب على العشرات وشاهدنا أكثر من مستريح، وهو ما دفع كما يبدو صناع الفيلم إلى إنتاجه على عجالة، مع إضافة تاء التأنيث ليتم تفصيله على ليلى علوى. دُور العرض رحبت بالفيلم فى الداخل وأيضًا فى الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية ينتظرونه بشغف، تجربة ليلى وبيومى انتقلت من نجاح يشهد به الشباك إلى نجاح آخر يؤكده الشباك.
ثنائية ليلى وبيومى تعنى التوازى فى الدورين الرئيسيين البطلة والبطل، هذه المرة الدراما فرضت فقط بطلة محورية، وبيومى تواجد فقط كتميمة للإيحاء بتلك الثنائية، غير المتوفرة أصلًا.
بعض فنانى الكوميديا الذين كانوا قادرين فى الماضى على الإضحاك فشلوا تمامًا هذه المرة، مثل مصطفى غريب ومحمود الليثى، ليلى علوى من النجمات القادرات على التعبير الكوميدى، إلا أنه لا يوجد شىء مما شاهدناه يستحق توصيف كوميديا، ولكنه افتعال للكوميديا، لا تثير مثل هذه المواقف الضحك عادة، إلا لفريق العمل داخل الاستوديو أثناء التنفيذ، لا أدرى ما حظوظ الفيلم تجاريًّا فى الخليج، ولكنه يحتل المكانة الأخيرة فى مصر.
تقديم حادثة فى قالب كوميدى تابعناها، حتى فى أبشع جريمة للسفاحتين ريا وسكينة، كما أن النصاب الذى باع العتبة الخضراء قدم عنه المخرج العظيم فطين عبدالوهاب، قبل ٧٠ عامًا، فيلم (العتبة الخضرا) بطولة إسماعيل ياسين لا يزال قادرًا على إضحاكنا.
الشريط الجديد، التعبير الوحيد لوصفه، مع كثير من التهذيب، هو السخافة، لن ينجح اليوم، ومن الصعب أن تتذكره فى الغد.
نكرر نفس السؤال: (البحث عن منفذ للسيد رامبو)، هل ينصفه الغد؟. سوف تتسع دائرته الجماهيرية، إلا أن شراسة السوق السينمائية المصرية فى الداخل، والتى تجعل من الصعب توفير دُور العرض، لن تسمح له بالاستمرار كثيرًا فى البقاء بدُور العرض. لدينا المنصات والفضائيات، نوافذ جديدة، من الممكن أن تلعب دورًا حيويًّا فى القادم من الأيام.
الفيلم قدم لنا نجمًا قابلًا للرهان عليه، عصام عمر، وممثلًا يقف لأول مرة أمام الكاميرا، أحمد أيوب، هو أيضًا واضع الموسيقى التصويرية، موهبة حقيقية فى التمثيل والموسيقى التصويرية، وممثلًا مخضرمًا، لم ينل ما يستحقه من تقدير، رغم مشواره الذى يقترب من خمسة عقود، حسن العدل، ومنتجة فنانة أعرفها كمتابعة دؤوبة ومبرمجة فى المهرجانات العالمية، إلا أنها قررت تغيير المسار، ولدينا أيضًا السيناريست الجديد محمد الحسينى، وقاد فريق العمل مخرج يلتقط التفاصيل، خالد منصور.
هذه هى قراءتى للزمن القريب القادم. الفيلم فى ظل كل القيود يقول كلمة جريئة، عبّر عنها أيضًا بجرأة إبداعية نضحت بها الشاشة!.