بقلم - طارق الشناوي
الشيطان يكمن في التفاصيل، واكتشاف الحقيقة من الكذب هو في الإمساك بتلك التفاصيل.كثيراً ما أجد معلومة منتشرة على (النت)، أتعامل معها بقدر كبير من الاحتراز، التجارب أثبتت أن الخيال كثيراً ما يتجاوز الواقع. عدد كبير مما أصبح مسلّماً به نكتشف أساساً استحالة حدوثه واقعياً، إلا أننا بقدر لا ينكر من الكسل نستسلم للكذبة، خصوصاً لو كانت «سبايسي» (حراقة).
لو قرأت الذي كتبه عدد من الضباط الأحرار عن ثورة يوليو (تموز) وكيف يرى كل منهم ما حدث في ليلة 23، ستعتقد أن كلاً منهم عاش ليلة غير تلك التي عاشها الآخرون، ومغايرة أيضاً لكل الليالي التي عرفها الناس.
ستكتشف أيضاً أن كتابة التاريخ في ظل وجود شهود عيان تجعل من يمسك بالقلم أو يحكي أمام الكاميرا، يخشى من التكذيب، ومع اختفاء قسط أكبر من المعاصرين، قد يتجرأ على الإضافة أكثر ويمنح لخياله العنان أكثر وأكثر.
قرأت مؤخراً أن أم كلثوم تزوجت من د. حسن الحفناوي عام 54 ثم طلبت من الرئيس جمال عبد الناصر أن يمنع نشر الخبر حتى لا يؤثر على الرأي العام، حيث كنا نترقب الاحتفال بعيد الجلاء، وهو ما فعله عبد الناصر، هل تملك أم كلثوم الجرأة لتطلب ذلك من الرئيس؟ قال لي الأستاذ سامي شرف سكرتير جمال عبد الناصر - أمد الله في عمره - إن أم كلثوم أرادت أن تمنح درجة وظيفية أعلى للمهندس محمد الدسوقي - ابن أختها والمسؤول عن أعمالها - في مؤسسة السينما التابعة لوزارة الثقافة، فلم تجرؤ على الاتصال بجمال مباشرة ولكنها تواصلت معه، وهو الذي اختار التوقيت المناسب وفاتح عبد الناصر، ووافقه قائلاً طالما كانت الدرجة الوظيفية من حقه امنحها له. قرأت أيضاً على (النت) أن زوج السيدة أم كلثوم صفعها بعد مشادة بينهما واشتكته لعبد الناصر، فعنفه، ولم أجد أنني مضطر هذه المرة لمراجعة الأستاذ سامي في تلك الواقعة، فهي تكذب نفسها بنفسها، ولكنها الثقافة الذكورية التي تسعي للزهو، وهكذا (الست) التي يعمل لها الجميع ألف حساب صفعها زوجها.
الجميع يؤكد مثلاً أن عبد الناصر هو الذي طلب من أم كلثوم وعبد الوهاب اللقاء الفني، إلا أن الإذاعي الراحل وجدي الحكيم حصل على وثيقة من محمد الدسوقي ينفي الواقعة تماماً، ويؤكد أن عازف الكمان الشهير أحمد الحفناوي صديق الطرفين أم كلثوم وعبد الوهاب، هو الذي لعب دور حمامة السلام وبعدها بدأ خيط (أنت عمري).
كثيراً ما تقرأ أن أنور السادات وهو في طريقه لإلقاء البيان الأول للثورة في الساعة السابعة والنصف صباحاً، التقى المطرب محمد رشدي على سلم الإذاعة فسأله: ما الذي سوف تغنيه؟ أجابه (إللى انكتب ع الجبين)، فقال له السادات: اليوم ثورة، غنِ وابسط الناس (قولوا لمأذون البلد). الإذاعي الكبير فهمي عمر - أمد الله في عمره - هو الذي التقي السادات صباحاً في الإذاعة ومنحه الميكروفون لكي يقدم البيان الأول للثورة، ويقال لأنه كان مليئاً بالأخطاء اللغوية أعاده السادات مرتين، أكد لي الأستاذ فهمي أن رشدي لم يكن أساساً على الخريطة الغنائية، وأضاف: من المطرب الذي يستيقظ الساعة السابعة والنصف صباحاً ومعه أيضاً الفرقة الموسيقية؟ سألته: لماذا لم تكذب الواقعة والسادات ورشدي على قيد الحياة؟ أجابني: لم يسألني أحد.
إنها التفاصيل الدقيقة التي تكشف كثيراً من الأكاذيب، وتفضح قبل كل ذلك كسلنا في الاستسلام للأكاذيب.