القيمة والقامة، الإنجاز الفنى غير المسبوق، والاحترام الجماهيرى الدافئ، هذا هو محمود ياسين.كان محمود ياسين، وما أصعبها من كلمة، عنوانا لسنوات إبداع ووهج عاشتها السينما المصرية، أعلم أنه كان يغضب دائما من هذا اللقب «نجم»، ولكن قدره أنه بكل لغات العالم سوبر ستار «نجم استثنائى»!!
ما هي النجومية؟ إنها مثل الحب كما قال عنه نزار قبانى بصوت نجاة «بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه» أي أنه ضرورة نحتاجها في حياتنا، وهكذا كان محمود ياسين، وهو في الثامنة والعشرين من عمره في مطلع عام 1970، هو هذا البطل النجم «جان» السينما المصرية الذي بحثت عنه القلوب وتوحدت عليه المشاعر واختاره الناس معبراً عنهم.. كانت حقبة فارقة جدا في تاريخنا الفنى وأيضا السياسى والاقتصادى والاجتماعى، أتحدث عن عقد السبعينيات كله، كانت مصر تتغير على كل الأصعدة: انفتاح اقتصادى، انتصار عسكرى ثم صلح مع إسرائيل، تغيير في البنية الاجتماعية، حتى لغة التخاطب بين الناس بدأت تدخل فيها مفردات جديدة، وفى نفس الوقت كان نجومنا الكبار أمثال «فريد شوقى»، «كمال الشناوى»، «أحمد مظهر»، «شكرى سرحان» قد عبروا شاطئ الخمسين من عمرهم أو وقفوا بالاقتراب منه مثل «رشدى أباظة» ولم يعودوا يصلحون لدور الفتى الأول..
كانت لدى شركات الإنتاج محاولات مضنية للبحث عن نجم شاب به كل المواصفات وبالفعل أسندت البطولات في نهاية الستينيات لأكثر من نجم شاب لملء هذا الفراغ الذي تركه الكبار، ولكن كان هناك شرط ناقص في المعادلة وهو الجمهور.
كل التجارب السابقة على «محمود ياسين» لاختراع نجم سينمائى جديد اصطدمت بحائط صلب لا يمكن اختراقه وهو مشاعر الناس التي رفضت كل هؤلاء.. نبضات قلوب الناس توحدت على «محمود ياسين».. تحمس له المخرج حسين كمال في «نحن لا نزرع الشوك» وفى نفس الوقت أسند له يوسف شاهين بطولة «الاختيار» ولم يستطع «محمود ياسين» أن يصور الفيلمين معا، وهكذا انطلق مع حسين كمال نجماً أمام شادية لكن «يوسف شاهين» يبدو أنه لم ينس له هذا الموقف ولهذا ظل بعيداً، وحتى النهاية، عن خريطة سينما «يوسف شاهين».
حكى لى «محمود ياسين» أنه كان سعيدا بلقائه مع يوسف شاهين في «الاختيار» وقام بتفصيل البدل التي ترتديها الشخصية، شرط «يوسف شاهين» كان قاسياً وهو ضرورة الاعتذار أولاً لحسين كمال، بينما «حسين» لم يضعه في هذا المأزق، فاختار «حسين كمال» وأسند «يوسف شاهين» الدور إلى «عزت العلايلى».. وقبل أن يعرض فيلم «نحن لا نزرع الشوك» كانت كل سيناريوهات السينما المصرية تكتب من أجل بطل واحد هو محمود ياسين. لم تستغرق فترة حضانة محمود ياسين قبل أن يعرف البطولة سوى ثلاثة أعوام فقط 67 و68 و69 قدم خلالها أدواراً قصيرة في خمسة أفلام أشهرها «القضية 68» لصلاح أبوسيف و«شىء من الخوف» لحسين كمال الذي استشعر منذ ذلك الحين أن «محمود» هو نجم السينما القادم ليصبح من بعدها بطلا لأكثر من 200 فيلم.
في العام الواحد كان يلعب أحيانا بطولة 10 أفلام، وبرغم ذلك استطاعت نسبة كبيرة من هذه الأفلام أن تخرج من حساب العام إلى توثيق الزمن السينمائى كله. سوف أختار لكم للتدليل عاما عشوائيا 1977، حيث كان له عشرة أفلام وما تبقى منها في ذاكرة السينما يستعصى على النسيان «أفواه وأرانب»، «سونيا والمجنون»، «شقة في وسط البلد»، «العذاب امرأة»، وتعددت الذرى الإبداعية لمحمود ياسين في السينما عبر سنوات متفرقة مثل «الخيط الرفيع»، «أين عقلى»، «أنف وثلاث عيون»، «ليل وقضبان»، «أغنية على الممر»، «على من نطلق الرصاص»، «الصعود للهاوية»، «انتبهوا أيها السادة»، «مع سبق الإصرار»، «قاع المدينة»، وغيرها، فالقائمة الإبداعية طويلة..
كل نجمات السينما الكبار كان «محمود ياسين» هو «الجان» الذي يقفن أمامه بعد أن شارك»شادية«بطولة»نحن لا نزرع الشوك«،تختاره»فاتن حمامة«لكى يشاركها»الخيط الرفيع«إخراج»هنرى بركات«، إنه لياسين فقط أحد الأفلام الهامة على طريق»محمود ياسين» التي شكلت علامة فارقة في صعوده ولكنه شهد أيضاً تغييراً في مسار سيدة الشاشة»فاتن حمامة«،»الخيط الرفيع«يتناول الخيط الشائك بين الحب والامتلاك، هكذا أمسك»إحسان عبدالقدوس«بتلك المعادلة السحرية..»فاتن«تقدم دور فتاة ليل.. نعم لم تكن المرة الأولى التي تؤدى»فاتن«هذا الدور فلقد سبق وأن قدمته في»طريق الأمل«لعز الدين ذو الفقار عام 1957.. ولكن هذه المرة لم يكن هناك حتمية لكى يبرر أن احتياجها الاجتماعى دفعها إلى هذا الطريق.. كان الهدف العميق هو اكتشاف هذا الخيط الرفيع لحب الامتلاك والفارق بينه والحب..،ويقفز»محمود ياسين«درجات إلى المقدمة، وقف بطلاً كاسم موازياً لفاتن وأيضاً كفن أداء وصل إلى الذروة أمام سيدة الشاشة..
ونأتى إلى محطة الفيلم الوطنى «أغنية على الممر» أول إخراج لعلى عبدالخالق وبداية ما كان يعرف وقتها بالموجة الجديدة.. «محمود ياسين» ينتمى فكرياً للجيل الأسبق وعلى رأسهم «حسين كمال» ولكن هذا لم يمنعه أن يقف مع الجيل الجديد الذي كان يضع أمامه هدفاً واحداً هو الهجوم على السينما السابقة على هذا الجيل، والفيلم شارك في إنتاجه جماعة السينما الجديدة، وكان ينبغى حتى يكتمل المشروع أن يتحمس للتجربة نجم له جماهيرية طاغية، ولم يكن هناك إلا «محمود ياسين» إلا أنه يعود مجدداً إلى «حسين كمال» ومع نجمة في الجيل الذهبى للسينما وهى «ماجدة الصباحى» في «أنف وثلاث عيون»، وذلك بعد لقائه مع «شادية» و«فاتن» هذا الفيلم روى لى «حسين كمال» أن «ماجدة» باعتبارها منتجة الفيلم كانت تريد «رشدى أباظة» بطلاً و«رشدى» هو (جان الجانات) في السينما لكن «حسين كمال» كانت لديه وجهة نظر أخرى لأن العيون التي تحوم حول الأنف بينهما «نجلاء فتحى» و«ميرفت أمين»، وينبغى أن يصبح البطل قريبا من عمرهما، حتى لا يجد أن المشروع السينمائى اتجه إلى زاوية أخرى لم يقصدها لا هو ولا «إحسان عبدالقدوس» لأنه قد يفسر الحب في هذه الحالة بأنه إعجاب بالشعر الأبيض، وأصر «حسين كمال» على «محمود ياسين» وكان له ما أراد، لأن »حسين كمال« ليسن مخرجاً منفذاً لرغبات النجوم والنجمات حتى لو كانت النجمة هى المنتجة!!.
تستطيع أن تلحظ أيضاً من خلال ذلك أن «حسين كمال» هو من أكثر المخرجين ارتباطاً بمحمود ياسين ويراه دائماً النجم الأول.. وهكذا أقنعه بأن يلعب بطولة الفيلم الاستعراضى الغنائى «مولد يا دنيا».. و«حسين كمال» واحد من كبار المخرجين الذين يجيدون فن قيادة الممثلين ويخرج منهم أفضل ما لديهم وهكذا تألق «محمود ياسين»!!
مع «أشرف فهمى» أتوقف مع الفيلم الاستثنائى «ليل وقضبان» عام 73 وهكذا يلتقى مع «سميرة أحمد»، أهم نجمات العنقود الذهبى للسينما، «ليل وقضبان» الفيلم الروائى الرابع لأشرف فهمى هو أيضاً الفيلم الذي حدد له مكانته كواحد من أفضل مخرجى جيل السبعينيات في السينما المصرية ولم يكن لقاء «محمود ياسين» فقط مع «سميرة أحمد» ولكنه يلتقى للمرة الثانية مع «محمود مرسى» الأولى كانت في «شىء من الخوف» في دور صغير.. هذه المرة كان هو البطل أمامه فهو المسجون، و«مرسى» السجان و«سميرة» زوجة السجان.. العلاقة تبدأ خافتة وعلى استحياء حتى تزداد سخونتها مع تتابع الأحداث ليقفز «محمود» كعادته بهذا الفيلم درجات أخرى لنجم ممثل يعرف بالضبط كيف يعبر بأستاذية عن مشاعره التي يزداد معدلها الانفعالى لحظة بلحظة.. الفيلم الذي لا ينسى لمحمود هو «أين عقلى» 1976.. حكى لى «نور الشريف» كيف شعر بالغيرة الفنية من الأداء العبقرى لمحمود ياسين وبرغم ما بينهما من تنافس بحكم التواجد على الخريطة الفنية في فترة زمنية واحدة، إلا أنه ظل طوال الليل يبحث عن «محمود ياسين»- وذلك قبل اختراع المحمول- حتى عثر عليه وهنأه.. وشعر فقط لحظتها بالسعادة لأنه أفرغ شحنة الحب والإعجاب لمنافسة الأول وما أجمل هذا النوع من التنافس.. «محمود ياسين» لايزال خلال تلك السنوات يقف إلى جانب ما اصطلح على أن يطلقوا عليهم مخرجو الموجة الجديدة، ولهذا يلعب بطولة «ظلال في الجانب الآخر» للمخرج فلسطينى الجنسية «غالب شعث» والفيلم يؤكد أن القضية الفلسطينية، هي بؤرة ما يحدث في العالم العربى وأن من خلالها يأتى الحل.. الفيلم أنتجته أيضاً جماعة السينما الجديدة مع مؤسسة السينما المصرية!!
في عام 1980 يقدم الفيلم الذي تحول إلى رمز يتناول التحول الاجتماعى في مصر «انتبهوا أيها السادة» سيناريو رائع كتبه الراحل «أحمد عبدالوهاب» وواحد من أهم إن لم يكن أهم أفلام المخرج «محمد عبدالعزيز»، الفيلم كان وثيقة سينمائية عن المتغيرات الاجتماعية الحادثة في المجتمع.. إنه «عنتر» جامع القمامة ويذهب «محمود ياسين» بأستاذية للشخصية أي أنك ترى «عنتر» ويخفت تماماً صوت وصورة «جان» السينما المصرية الأول ولا يعلم الكثيرون أن هذا الفيلم رشح له في البداية «عادل إمام» و«سعيد صالح» وعندما اعتذرا أسندت البطولة إلى «محمود ياسين» و«حسين فهمى»!!
في مرحلة ما يتضاءل بعض الوهج لمحمود ياسين ويقدم العديد من المسلسلات التليفزيونية ويشارك في أفلام متواضعة أذكر منها «مرسى فوق مرسى تحت»، «العملية 42»، «الكماشة»، «الفضيحة»، «طعمية بالشطة»، «امرأة تدفع الثمن»، «اغتيال فاتن توفيق».. لا أدرى بالضبط هل كان «محمود» فى تلك السنوات يشعر أن تغييراً ما قادم وأن عليه أن يوافق على ما هو معروض عليه من أفلام وأيضاً مسلسلات بدون أى مراجعة فنية أم أن هناك أسباباً أخرى،ثم أنتج فى التسعينيات لياسين لنفسه هذه المرة ولكن من أجل ابنته «رانيا محمود ياسين» فيلم «قشر البندق» وأخرجه «خيرى بشارة» شارك «محمود» فى بطولته وكان بداية ظهور لعلاء ولى الدين و«محمد هنيدي» و«عبلة كامل» وانطلقوا إلى عالم النجومية بينما لم تستطع «رانيا» أن تقدم الخطوة التالية سينمائياً ولم يحاول «محمود» الإنتاج لها!!
بعد ذلك لعب «محمود ياسين» دور «أحمد رامى» في فيلم «كوكب الشرق» إنتاج وإخراج «محمد فاضل» وشاهدناه أيضا في 2012 بطلا في (جدو حبيبى).
رغم أن «محمود ياسين» ليس ممثلاً يمتلك صوتاً مؤثراً أو فخيماً وجذاباً فقط ولقد حسم هذه القضية عندما حاول البعض في البداية أن يقيد موهبة محمود ياسين في أدائه الصوتى، فقط قالوا إن «الكاريزما» تكمن في أحباله الصوتية التي لا تستطيع أن تقاومها النساء ويتوقف أمامها الرجال بنوع من الغيرة وأمام هذا التحدى لعب بطولة فيلم «الأخرس» عام 1980 ليثبت أن «الكاريزما» أعمق بكثير من أن تصبح مجرد فقط صوت..
مهما كان له من سحر وجاذبية.. نعم تغير الزمن أخطأ محمود ياسين فى بعض اختياراته السينمائية، وقدم عدداً أكثر مما ينبغى من المسلسلات التلفزيونية العديد منها لم يعرض فى مصر حتى الآن..
عوامل كثيرة لعبت دورها في حجب توهجه السينمائى أهمها- ولم يكن الأمر بيده- لكنه قانون السينما التي تتوجه فقط للشباب وأبطالها هم الشباب. وهو أيضا ما يقتنع به محمود ياسين ويردده دائما عن سر ابتعاده عن السينما، إلا أننى أعتقد وبنفس القدر من الأهمية أن بعض المشاركات السينمائية له خاصة فى مرحلة التسعينيات كان يعوزها دقة ا لاختيار.. ثم صمت وعاد 2007 في «الجزيرة» لشريف عرفة.. اللقاء أرضى محمود ياسين وأعجب الجمهور وأثنى عليه أغلب النقاد، وافقت على هذه العودة فقط على سبيل التسخين، حتى جاء 2008 «الوعد» للمخرج «محمد ياسين» فكان هو الوعد السينمائى الذي انتظرته، شاهدت «محمود» يؤدى دور رجل قاتل شارف على الموت.. مسيحى الديانة إلا أن تلك البطاقة الدينية لا تعنى شيئاً محدداً سوى أنه يشعر بالنهاية ويريد أن يوصى مجرما مبتدئا مسلم الديانة هو «آسر ياسين» بأن يتولى هو مسؤولية دفنه في المكان الذي يتمناه.. «محمود» يقدم تفاصيل هذا الرجل الذي ينتظر لقاء الله مهما ارتكب من خطايا فإن رحمة الله واسعة.. شاهدت «محمود» في هذا الفيلم مرتين وفى كل مرة كنت أضبط نفسى وأنا أقول له أعد يا أستاذ أعد.
«محمود ياسين» يتجاوز دوره كممثل مبدع ليصبح رمزا فنيا دائماً ما أشاهده خارج الحدود يشارك في ندوة متحدثاً باسم السينما المصرية ويجيد التعبير عن تاريخ هذه السينما.. «محمود ياسين» ملأ مكانته ممثلاً للإبداع المصرى، في أكثر من منتدى ثقافى عربى ودولى وهو يتحمل مسؤولية أن يصبح سفيراً للفن المصرى.
ابتعد محمود في السنوات الأخيرة عن الساحة وكالعادة بين الحين والآخر تنتشر شائعة الموت، صارت الشائعة حقيقة، ومات محمود ياسين إلا أن الفنان لم ولن يعرف الموت!!