المخرج المغربى نبيل عيوش واحد من أكثر المخرجين العرب مشاغبة، يحرص على أن يظل داخل الهامش المتاح، وهو أيضًا أكثرهم تعرضًا للانتقادات فى بلده وخارجها، ورغم ذلك، وربما بسبب ذلك، فهو لا يتوقف عن الإبداع ولا عن المشاغبة.
ستلاحظ أن قسطًا كبيرًا من أفلامه يحصل على دعم مادى من (المركز السينمائى المغربى)، الذى يدخل فى شراكة إنتاجية مع أكثر من دولة أوروبية، والدلالة هنا تعنى أن داخل الدولة صوت يقف مؤيدًا له فكريًا وماديًا.
هل يكفى الهامش المتاح لكى يعبر المثقف بالكلمة أو النغمة أو اللقطة عن موقفه وإحساسه وآماله وآلامه؟، قالها يومًا أديبنا الكبير الأكثر حضورًا على الصعيد الفكرى، دكتور يوسف إدريس: (كل الهوامش المتاحة عربيًا لا تكفى أديبًا واحدًا للتعبير عن رأيه).
ورغم ذلك استطاع أديبنا الكبير وغيره من المبدعين أن يتلمسوا بصيصًا من نور، فى النفق المظلم.
الطريق ليس مفروشًا بالورود أمام الكاتب الروائى وبلا محاذير، فقط الهامش أكثر اتساعًا، عندما يصبح الحديث عن رواية مكتوبة، بينما الفيلم كثيرًا ما يفاجأ صانعه بالحجارة تأتيه من كل اتجاه، وأولهم أبناء (الكار)، لا ننسى ما حدث عند طبع رواية (وليمة لأعشاب البحر) للأديب السورى الراحل حيدر حيدر، وفى مصر عندما تم طبعها عام ١٩٩٩، من إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة، واجه المسؤول عن النشر، الأديب الكبير إبراهيم أصلان، تحقيقًا أدى إلى أن يتقدم باستقالته، ومع الزمن- وكالعادة- صارت (وليمة لأعشاب البحر) متاحة للجميع، وعلى (النت) بالمجان، كلنا نتذكر ما حدث مع (أولاد حارتنا) لكبيرنا وكبير الأدباء فى عالمنا العربى نجيب محفوظ، عدد لا بأس به من الأفلام المصرية توعد البعض صانعيها، بسحب الجنسية، مثل يوسف شاهين، وفى النهاية أيضًا صارت متاحة على كل الفضائيات والمواقع، مثل فيلم (القاهرة منورة بأهلها)!!.
من أكثر المخرجين العرب مشاغبة فى الألفية الثالثة، وفى نفس الوقت حقق تواجدًا عالميًا، وخاصة على خريطة مهرجان (كان)، المخرج المغربى الكبير الذى تابعته على مدى ربع قرن نبيل عيوش، هذا الفنان المبدع يحمل على كتفيه وفى قلبه عشقًا للوطن، وفى نفس الوقت يمتلك الجرأة أن يقول الكثير، بين الحين والآخر يواجه هذا الصوت الغاضب الذى يتدثر عنوة ونفاقًا بالمجتمع، رافعًا شعار سمعة الوطن، ومتهمًا كل من يقدم أى لمحة تحمل شيئًا سلبيًا بأنه يبيع الوطن، من أجل الحصول على تمويل، أو للتواجد على الخريطة العالمية.
مع أفلام عيوش، أو فى القسط الأكبر منها، ستلمح أن أكبر حائط صد امتلكه المخرج المبدع، طوال تاريخه، هو الشريط السينمائى، وهو كفيل بالدفاع عن أفكاره، كما أن أغلب أفلامه يتصدر مشاركات الإنتاج (مركز السينما المغربى)، الداعم الأول، وهذا قطعًا يعنى موافقة ضمنية على الشريط السينمائى، لتصبح الدولة شريكًا فى تحمل المسؤولية، وبالدفاع عن الفيلم لأنه يحمل أفكارها، درس مهم أتمنى أن يستوعبه هؤلاء الذين يسارعون أخذًا بالأحوط بالرفض والمصادرة.
عيوش لا تواجه أفلامه فقط بغضب محلى، ولكن أحيانًا يصبح عربيًا، أتذكر فيلم (كل ما تريده لولا) ٢٠٠٧، قدم حياة امرأة أمريكية قررت احتراف الرقص، تأتى للقاهرة، عند عرض الفيلم فى أحد المهرجانات العربية، وقبل كتابة كلمة النهاية، استمعت إلى صوت نجم مصرى كبير، ردد نفس الاتهام، (هذا الفيلم يسىء لسمعة مصر)، وطالب بعدم عرضه، وهو ما وضع إدارة المهرجان العربى فى حرج، وكأن القائمين عليه شاركوا فى جريمة ضد مصر.
عيوش تم اختيار فيلمه (الكل يحب تودا) للعرض الرسمى فى مهرجان (كان) الأخير، فى قسم أطلقوا عليه (العرض الأول)، الذى يعنى أن المهرجان يشير إلى أهمية هذا الفيلم، فهو يلعب دوره فى الاكتشاف، إلا أنه لا يتسابق على الجوائز، واختارته- أو بالأحرى اقتنصته- إدارة مهرجان الجونة ليتسابق على الجوائز، من خلال فريق العمل الذى تواجد هناك.
(تودا) هى مطربة تؤدى نوعًا قديمًا من الغناء المغربى الفولكلورى يسمى (العيطة)، ارتبط تاريخيًا بمقاومة الاستعمار الفرنسى، وكان فى الماضى حكرًا على الرجال، لأننا نعتبر النضال قاصرًا على الرجال، وننسى أن حماية الوطن بكل الأسلحة الممكنة شأن النساء أيضًا، وهكذا فإن هذا الفن تاريخيًا له فى الذاكرة المغربية بعدًا وطنيًا للدفاع عن الهوية.
يطلقون على المطربة فى المغرب لقب (شيخة)، فى مصر تعودنا منذ القرن التاسع عشر على أن يحمل المطرب والملحن لقب (شيخ)، حتى وهو لم يتحصل بالضرورة على أى شهادة أزهرية، لارتباط فن الموسيقى بترديد القرآن، وعدد من المطربين فى الزمن الماضى كانوا من حفظة القرآن الكريم، ظل اللقب مصاحبًا لهم، مثل سلامة حجازى وكامل الخلعى وسيد درويش وزكريا أحمد، وصولًا إلى سيد مكاوى.
يقدم نبيل مشهدًا يدعم ويعمق هذا الإحساس من خلال المطربة تودا، التى أدت دورها بإتقان نسرين الراضى، شاهدناها تردد مقطعًا من غناء (العيطة) بالطريقة التقليدية، وصوت آذان الفجر الذى كان يتردد فى خلفية المشهد، وكأنه يصنع توافقًا، أو بالأحرى يشير إلى هذا الانسجام بين الدين والوطن والموسيقى.
وهو من أكثر المشاهد إبداعًا وحميمية، لأنه يحمل بداخله- بدون صخب أو مباشرة- عمق الحكاية.
بطلة الفيلم تغتصب، مع اللقطات الأولى، هناك من يعتقد أن من تمارس الفن يحل جسدها للاغتصاب، وتقرر أن تذهب إلى كازبلانكا (الدار البيضاء) لتبدأ رحلتها مع النجاح.
ليس الجميع أشرارًا، هناك أيضًا الأخيار، من يتحمس لها ومؤمن بصدق موهبتها، مثل أبيها، وعازف كمان عجوز يصاحبها، والمفارقة أن هذه الشيخة (تودا)، والتى تحلم بأن يصل صوتها للجميع، نكتشف أن أقرب الناس إليها محروم من سماع صوتها والحديث معها، فهو يعانى من فقدان حاسة السمع، وتتعلم من أجله لغة الإشارة، وتسعى برغم كل المعوقات لإلحاقه بمدرسة لذوى الاحتياجات الخاصة.
الخط العام الذى أمسك به عيوش وقدمه فى السيناريو، والذى شاركته زوجته الكاتبة والمخرجة أيضًا مريم التوزانى، لا يقدم فيه عيوش رحلة صعود مطربة، ولا هو فيلم توثيقى عن فن (العيطة)، بقدر ما يسعى المخرج إلى إنعاش الأمل بداخلنا للمقاومة، وستصل الرسالة الأهم، وهى أنك بعد نهاية العرض ستجد كل مشاعرك تتوجه للإحساس بتقدير لهذا النوع من الفن، ولتلك الشخصية (تودا)، القادرة على التحدى، وقبل كل ذلك الإعجاب بالمخرج نبيل عيوش، الذى أبدع هذا الفيلم. أكرر الشريط السينمائى دعمته المملكة المغربية، ولم ينزعج أحد، هل وصلت الرسالة للمذعورين دومًا بسبب مرة وبدون سبب ألف مرة؟!!.