فى زمنٍ كان المجتمع المصرى يتقبل فيه كل الآراء دون أن يحاسب القائل بمنظور دينى أو أخلاقى مباشر، متأملًا مدلول المعنى.. سألوا العديد من الكبار عن رسم الصور العارية وتعددت الإجابات، ولكنى لا أنسى ما قاله يوسف السباعى: «جسد المرأة هو أروع صورة تعبيرية خلقها الله».
كما ترى فى إجابة السباعى انحيازٌ واضحٌ للمرأة الأنثى، وهو ما يمكن تفهمه فى سياقه الأدبى والتاريخى، ولكن هل فى الإبداع أيضا تتفوق بالضرورة المرأة؟.
كثيرًا ما نشعر أن مهرجان (برلين) ينحاز للمرأة.. فى العديد من المسابقات الرسمية تكتشف شبه تساوٍ فى عدد الأفلام التى تحمل توقيع النساء، وهو ما أثار بين الحين والآخر الغضب الذكورى.. حتى إنه ومنذ الدورة السابقة الـ(72) ألغى المهرجان توصيف جائزة التمثيل للرجال وأخرى للنساء، أصبحت فقط تمثيل رجال أو نساء وحصلت عليها أيضا امرأة ألمانية تركية الأصل «ملتم كابتان» عن فيلم (كوناز ضد جورج دبليو بوش).. لم تلتقط الفكرة المهرجانات الأخرى ولا مسابقة (الأوسكار) أو المسابقات الموازية مثل ( سيزار) الفرنسى هذا النهج، رغم أنه مدعم بمنطق لا يحتمل المزايدة (التمثيل هو التمثيل) مثلما (الإخراج هو الإخراج)، و(المونتاج هو المونتاج)، ولا توجد جائزة مثلا لأفضل مخرج أو مخرجة، إلا أن تلك الخطوة التى أراها منطقية لم يفعلها سوى (برلين).
بنظرة عين الطائر على جوائز العام الماضى فى برلين، ستجد المرأة مسيطرة على الموقف، مثل أفضل مخرجة حازت الهرم الفضى الفرنسية كلير دينيس عن فيلمها (بمحبة وتصميم)، والدب الذهبى أفضل فيلم (الكاراس) للإسبانية كاترلا سيمون.
هل ينحاز المهرجان للمرأة أم للإبداع؟.. سنلاحظ فى هذه الدورة أن هناك نسبة نسائية معتبرة فى الأفلام؛ ستة أفلام من أصل 18 تحمل توقيع امرأة.. فى دورات سابقة كانت نسبة المرأة أكبر وتكاد تقترب من النصف، ولكن الجوائز فى السنوات السبع الأخيرة، ثلاث منها للنساء حصلن على الدب الذهبى.
ولو قارنت ذلك بمهرجانات عريقة أخرى موازية فى الأهمية مثل (كان) أو (فينسيا)، ستكتشف أن البون شاسع، من النادر أن تنال المرأة جائزة، بل الأوسكار طوال تاريخه الـ 95 فقط مرتان كأفضل فيلم لكاثرين بيجلو (خزانة الآلام)، وكلوى تشاو (أرض الرحل).
هل هناك تعمد فى كلا الجانبين؟ لا أتصور، لأن هذا لو صحيح، فيعنى إصابة المهرجان فى مقتل، وأيضا لجان التحكيم فى مقتل لأنها ستفقد شرعيتها.
مهرجان (برلين) يطبق قاعدة (5050)، التى تعنى أن النساء داخل هيئته التنظيمية لا يقل عددهن عن النصف.. الافتتاح بالفيلم الأمريكى (جاءت لى) إخراج ربيكا ميلر، وتترأس لجنة التحكيم النجمة كريستين ستيوارت.
المهرجانات والمنتديات الثقافية تملك أسلحة فى التعبير عن مواقفها الاجتماعية والسياسية، مثلا يواصل برلين التعبير عن موقفه المؤيد لأوكرانيا والرافض للموقف الروسى ويعرض فيلم (القوة العظمى) إخراج شون بين، وسبق مثلا أن تعاطف فى عهد أنجيلا ميركل مع المهاجرين، وانعكس ذلك على الأفلام التى تحمست وتعاطفت مع اللاجئين، بل حصلت على جوائز، كما أن الطباخة السورية المهاجرة فى تلك الدورة كانت هى طباخة المهرجان، وهو انحياز مزدوج سياسى واجتماعى، مما يثير قطعا حفيظة المهرجانات الأخرى.. كثيرًا ما أعلنت النساء الفرنسيات الغضب ضد (كان) المتهم بالتعصب الذكورى، حتى إنه عندما طلبت إدارة المهرجان ضرورة ارتداء الكعب العالى فى الافتتاح، تعمدت النساء السير حافيات على السجادة الحمراء فى قاعة (لوميير) فى (كان).
هل فى الفن والأدب رجل وامرأة؟.. أنا أقرأ باستمتاع للعديد من الكاتبات، أمثال أحلام مستغانمى (الجزائر)، سناء البيسى (مصر) غادة السمان (لبنان)، وأتابع بشغف أفلام نادين لبكى (لبنان) وساندرا نشأت (مصر)، هيفاء المنصور (السعودية)، كوثر بن هنية (تونس) وغيرهن. لم أضبط نفسى متلبسًا ولا مرة بالتحيز لهن كنساء، ولكن الإبداع هو سر انحيازى.
أغلب ما أقرأه وأتابعه من أحاديث للمبدعات لا يحمل أى مشاعر تدخل تحت طائلة الإحساس بالقهر أو الظلم كونهن نساء، بقدر ما تستشعر أنهن يمتلكن موهبة فرضت نفسها.. المعاناة لو حدثت ليست لكونها امرأة، ولكن لأنها قررت احتراف مهنة، لا يزال هناك قسط وافر من المجتمع العربى يتحفَّظ على الاعتراف بها.
كثيرا ما يتردد هذا التعبير، تمكين المرأة ومنحها (كوتة )، أى نسبة إجبارية، فى كل التنظيمات والتظاهرات.
المرأة تبدو عالميا وليس فقط عربيا أو مصريا. وقد توارت عن الصدارة فى أفيشات الأفلام، وهى تحصل أيضًا على الأجر الأقل، بينما لو عُدت للسينما المصرية تاريخيًا ستدهشك المفاجأة: ليلى مراد وفاتن حمامة وسعاد حسنى كُن الأعلى أجرا من النجوم الرجال، وهن أيضا اللاتى تتصدر أسماؤهن شباك التذاكر قبل النجوم.. ناهيك عن خصوصية السينما المصرية التى قامت على أكتاف نساء، مثل: عزيزة أمير وبهيجة حافظ وأمينة محمد وآسيا ومارى كوينى.
المبدع بالدرجة الأولى يتجاوز حدوده الجغرافية والبيئية والعرقية والدينية وأيضا الجنسية ليصل إلى العمق وهو الإنسان!!.
الإبداع يستمد وقوده من العقل البشرى، الذى لا يفرّق بين رجل وامرأة. أتفهم فى المسابقات الرياضية أن يتم هذا الفصل بين المرأة والرجل، ولكن لم يحدث أن تم رصد جائزة فى (الأوسكار) لأفضل مخرجة أو كاتبة أو مونتيرة، الجائزة التى تحصل عليها المرأة تتحقق قيمتها، لأنها اقتنصتها من الجميع، نساء ورجال!!.
النساء لسن بحاجة إلى استخدام سلاح (الكوتة) أو قنبلة (التمكين)، لأنهن قادرات على فرض حضورهن بسلاح أكثر فتكًا وهو الإبداع!.
ودعونا ننتظر ما الذى تحققه النساء فى (برلين) فى الدورة التى تفتتح مساء اليوم وسط ترقب، فهى أول دورة تُعقد بعد التحرر من سطوة (كورونا)، الذى فرض الكثير من قواعده على المهرجانات، ولا يزال بعض منها يسيطر أيضا.. هل نستطيع القول إن المرأة قادمة لتحتل الصدارة فى السينما؟.. يقينًا، نعم!.