بقلم - طارق الشناوي
العديد من رجال الدين عندما تسألهم عن الفن عموما والغناء تحديدا، تأتى الإجابة أشبه بالمحفوظات العامة (حلاله حلال وحرامه حرام)، وهى نفس الكلمات التي قالها مؤسس الجماعة محمد حسن البنا في منتصف الأربعينيات، عندما التقاه أنور وجدى صدفة وسأله عن الفن.
مقياس الحلال والحرام يعنى أنك ستطل على العمل الفنى بعدسة دينية، وستطبق عليه المعيار الذي أطلقه الشيخ الشعراوى عندما سأله حسن يوسف عن الزواج في الأعمال الفنية، حذره تماما من تقديم هذه المشاهد، لأنها تعنى الزواج الفعلى، ومن بعدها بات حسن يوسف حذرا من إتمام مراسم الزواج أمام كاميرا السينما والتليفزيون، وإن كان هذا لم يمنعه أن يشارك غادة عبدالرازق بعد رحيل الشعراوى بطولة (الحاجة زهرة وأزواجها الخمسة) ويؤدى دور أحد أزواجها.
أمس قدمت إذاعة الأغانى يوما مبهرا عن عمى الشاعر والصحفى الكبير مأمون الشناوى، في ذكراه 29، وتنوعت أغانيه، لدىّ الكثير للحديث عن هذا الكنز الإبداعى لمأمون الشناوى، سأكتفى هذه المرة بتناول العلاقة بين الشعر والدين في هذه العائلة، التي وصل فيها الأب إلى منصب رئيس المحكمة الشرعية.
بينما شقيقه يعتلى كرسى مشيخة الأزهر، ورغم ذلك لا ترى أبدا تلك الهوة بين الدين والفن، وعندما ظهرت علامات كتابة الشعر على عمى مأمون بعد عمى كامل الشناوى بنحو 6 سنوات، قال والدهما (جدى) الشيخ سيد، عندما تنجب قبيلة شاعرا واحدا تقيم الأفراح والليالى الملاح، فما بالكم عندما تنجب عائلة واحدة شاعرين!!.
تأملوا تلك الواقعة؛ كان مأمون يكتب في نهاية الأربعينيات أشهر وأرق الأغانى لعبدالوهاب وفريد وفوزى وأسمهان وليلى مراد وغيرهم، بينما عمه الشيخ مأمون الشناوى الإمام الأكبر وشيخ الجامع الأزهر، يتلقى بين الحين والآخر التهنئة من شيوخ أجلاء، كان يحرص فقط على التصحيح مؤكدا أنها من تأليف ابن شقيقه الذي يحمل اسمه، ولكنه أبدا لم يجرم أو يحرم هذه الأغنيات.
الشيخ مأمون الشناوى كان له دور بطولى في مواجهة الكيان الصهيونى، فلقد دعا للجهاد من فوق المنبر مع بداية نكبة 48، لو عدت لنهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ستكتشف أن لقب شيخ كان يسبق دائما كبار الموسيقيين أمثال سلامة حجازى وسيد درويش وأبوالعلا محمد وزكريا أحمد وصولا إلى سيد مكاوى، والمقصود بشيخ أنه حافظ وقارئ للقرآن، عبدالوهاب والقصبجى لم يحملا لقب شيخ.
إلا أن كلا منهما ارتدى الزى الدينى وحفظ ما تيسر من القرآن، حتى الموسيقار الكبير داود حسنى اليهودى الديانة، كان حافظا للقرآن، وله قول مشهور يؤكد أن الموسيقى الشرقية ستظل للأبد تنبض بالحياة طالما القرآن الكريم ينبض في قلوب المؤمنين.
ما ذكرنى بكل تلك الظلال، هو ما يحاول مع الأسف البعض أن يرمى إليه، ليضع المثقفين والمؤسسة الدينية في صراع حتمى، سيد درويش كان يغنى في مطلع القرن العشرين، بالزى الأزهرى (أنا هويت وانتهيت) ولم يعترض أحد، والشيخ زكريا أحمد حتى بداية الخمسينيات ارتدى العمامة والكاكولة والجبة.
وغنى (الورد جميل) و(غنى لى شوى شوى)، ولم يعتبرها أحد إهانة لوقار الشيخ، وعندما خلع الزى الدينى ذكر السبب في أحد الحوارات وهو أنه كان يقدم للفنانة زوزو حمدى الحكيم فنجان قهوة، تعثرت يده في كُم (الكاكولة) وأغرقت فستان زوزو، فأقسم من بعدها على خلع الملابس الأزهرية.
حسمت عائلة الشناوى مبكرا أي صراع قد يراه البعض حتميا بين الدين والدنيا، التحق الشقيقان كامل ومأمون الشناوى بالأزهر، ثم قفزا تباعا فوق السور، وانطلقا للحياة، وكتبا بالفصحى والعامية، فكان الشعر بكل ألوانه، تعبيرا عن الإيمان، فيضًا من الله يتدثر بالجمال الإبداعى!!.