جمهور مصرى سودانى أو سودانى مصرى، لن تفرق، السودان فى القلب.
شاهدت الفيلم السودانى (وداعًا جوليا) فى مهرجان (كان) مايو الماضى. الفيلم تمت (برمجته) فى مهرجان (الجونة) قبل أن يصدر قرار التأجيل، بحجة أسمها التعاطف مع غزة.
ما حدث ليلة أمس الأول فى سينما الزمالك هو بالضبط التعاطف المنشود قبل عرض الفيلم، احتلت غزة المقدمة فى كل الأحاديث، وشاهدنا التعاطف الإيجابى عند تقديم المنتج السودانى أمجد أبوالعلاء، والموزع السينمائى علاء كركوتى للفيلم، كانت فلسطين حاضرة بقوة.
العرض فى هذا التوقيت يحمل رسالة قرأتها على هذا النحو، ينبغى أن تستمر الحياة الثقافية من خلال عرض الأفلام ومناقشتها وإقامة الندوات والمهرجانات، بلا مظاهر احتفالية، الإقبال من مختلف الفضائيات على تغطية الحدث يدعم فى عمقه هذا الرأى.
يتابع الجميع ما نشاهده فى السودان من دمار شامل بين فريقين، كل منهما يطمع فى السلطة على حساب الوطن، كل منهما يدّعى حب الوطن بينما هو يمسك سكينًا ليذبح الوطن، السودان مهدد مجددًا بانفصال ثان بعد أن تم فى عام 2011 استفتاء أدى لاقتطاع الجنوب عن الشمال، قد تختلف الديانة وأحيانًا اللغة، ولكن لا يعنى ذلك أن يصبح لدينا سودانيو جنوب وشمال، (الجينات) واحدة والدماء واحدة، إلا أنهم نجحوا فى إقناع الجنوب بأن مصلحته فى الاستقلال.
المخرج محمد كردفانى نسج فيلمه بعمق وإبداع، هذا البلد الكريم يعشق أبناؤه الرقص والغناء لأنهم يعشقون الحياة، لدى السودانى إرادة لكى يتنفس بعيدًا عن الواقع القاسى، يمتلكون رغبة عميقة لكى يصلوا للدنيا من خلال شريط سينمائى، التصفيق الذى ناله فيلم (وداعًا جوليا) فى نهاية العرض من الجمهور فى مهرجان ( كان)، تكرر مجددًا أمس الأول، بأيدٍ مصرية سودانية.
التجارب السودانية فى مجال السينما قليلة جدًا، قوى الظلام هناك- مثلما نراها فى عدد من الدول العربية- تعتبر السينما أحد أهم أعدائها، ولهذا يُضمرون الشر لكل ما هو سينمائى ويدمّرون دور العرض، ولا توجد بنية تحتية، برغم أن السودان عرف مبكرًا الفن السينمائى إلا أنه يعانى من تزمت يعيشه المجتمع ويكتوى بنيرانه الجميع، يصر عدد من أصحاب العمائم على أن يعيش البلد فى زمن ما قبل اختراع السينما.
تعتقد فى البداية أن الشريط يحكى قصة لا تعنى سوى أصحابها، لتتسع الدائرة ببعض التأمل إلى حكاية وطن، وجد نفسه منشطرًا إلى جزءين، ويقر تلك الرغبة الاستفتاء بنسبة تقترب من الإجماع؛ السيناريو لا يخفى أبدا الظلم الذى تعرض له أهل الجنوب الذين يعيشون فى الخرطوم.
بسبب هؤلاء المتطرفين؛ دمار الشعوب يجتاح الإنسان حتى فى مشاعره التى تنقسم على نفسها، معتقدًا أن هذا هو الحل. ينتهى الفيلم بأن نرى امرأتين شمالية وجنوبية معًا، بعد أن تسامحتا عن أخطاء الماضى، إلا أن هجرة الجنوب عن الشمال كان قرارًا حتميًا، التسامح لا يعنى التصالح.
المخرج محمد كردفانى منح الفيلم مزاجًا واحدًا محافظًا على الهامش المقنن من الشاعرية التى تغلف الأحداث، لا يقدم القضية فى جدلها السياسى الصاخب، يحيلها لتصبح حكاية عاطفية بين صديقتين، المونتاج يلعب دور البطولة مع التصوير والموسيقى، المخرج لديه القدرة على تقنين فن قيادة ممثل، ليبرع الجميع بمن فيهم الطفل فى الأداء.
فقط كان ينبغى للسيناريو ألا يبدّد طاقته ويشرح بالتفصيل الكثير من الخيوط الدرامية للجريمة وكيف اكتشفت البطلة خداع صديقتها، وغيرها؛ لسنا بصدد فيلم (أكشن)، يدخل فى صراع مع ذكاء المتفرج، تكفى الإشارة بالعيون لتنطق بكل شىء دون حوار.
ويبقى الأهم فى توقيت عرض (وداعًا جوليا)، وهو أن علينا دائمًا فتح الباب لكل الأنشطة الثقافية، السينما تملك الكثير، فقط لا تغلقوا شبابيك النور!.