بقلم - مشعل السديري
قال إبراهيم النديم: ولما أردنا الانصراف ليلة عن (المأمون) التفت إلى إبراهيم بن المهدي المذكور قبله فقال: بحقي عليك يا عم لما صنعت أبياتاً وصنعت عليها لحناً، ثم قال لي مثل ذلك، وقال: بكّرا عليّ فقد اشتهيت الصبوح غداً، قال [أبو] إسحاق: فقلت والله لأكيدن إبراهيم ولأسرقنه، فلما صليت العشاء الآخرة ركبت وصرت إلى ساباط لإبراهيم كان له عليه مجلس يقعد فيه، فدعوت الحارس فأعطيته ديناراً وقلت له: لا تُعلم أحداً بمكاني، وصرفت غلامي وأمرته أن يأتيني بدابتي سحرَ، فلم ألبث أن جاء إبراهيم فجلس في مجلسه ذلك ودعا جواريه وجعل يلقنهن الشعر وقد صاغ عليه اللحن، فهو يضرب بالعود وأنا أضرب على فخذي إيقاع الصوت حتى أخذته وأحكمته، فلما كان السحر أتاني غلامي بدابتي فصرت من فوري إلى باب المأمون، فقال لي أحمد بن هشام: بكرت، ثم دخل فأعلمه فأذن لي فدخلت على المأمون فقال: أكلتَ؟ فقلت: لا، فدعا لي بالطعام، وقد كان أكل وشرب، فغنيته بشعر إبراهيم ولحنه وهو:
قالت نظرت إلى غيري فقلت لها
وماء دمعي من عيني محدور
نفسي فداؤك طرف العين مشترك
والقلب مني عليك الدهر مقصور
العين تنظر أحياناً وباطنه
مما يقاسي بظهر الغيب مستور
فطرب المأمون عليه وشرب، فما لبثنا ساعة واحدة حتى استؤذن لإبراهيم بن المهدي فأذن له فدخل فدعا له بالطعام وسُقي، ثم جلس فغنى هذا الشعر في هذا اللحن، فقال المأمون: يا هذا، أراك تسرق أشعار الناس وتدعيها لنفسك، واحمرت عيناه وغضب غضباً شديداً وكاد يسطو بإبراهيم، فقام إبراهيم على قدميه وقال: وقرابتك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيعتك في عنقي، ما سبقني إليه أحد، فقال المأمون: هذا أبو إسحاق بعينه، وقال: يا أبا إسحاق غنّه، فغنيته فبقي إبراهيم مبهوتاً لا يحير جواباً، فلما رأيت المأمون على تلك الحال قلت: يا أمير المؤمنين، الشعر واللحن له ولكن سرقته منه اللصوص، وحدثته الحديث فسكن حينئذ وقال: يا أحمد بن هشام، خذ من مال إبراهيم ثلاثين ألف درهم وادفعها إلى أبي إسحاق لتضييع إبراهيم سره، فغدوت على إبراهيم فقلت: أيها الأمير، اقبلها مني، واعتذرت إليه فقال: لا أقبل منك ما جاد به أمير المؤمنين، لكن كدت والله يُسفك دمي يا أبا إسحاق، فلا تعد في المزاج إلى مثلها؛ فإن الملوك تعفو عن الكثير وتقتل في اليسير.