بقلم: مشعل السديري
هناك الكثير من أمراء المؤمنين يملكون الفراسة، والقليل منهم (لا يهشّون ولا ينشّون)، وهؤلاء ما علينا منهم، لأنهم ذهبوا مع الريح.
ويطيب لي أن أضرب المثال بالفراسة بعبد الملك بن مروان، لمّا بعث الشعبي إلى ملك الروم، فحسد المسلمين عليه، فبعث معه ورقة لطيفة إلى عبد الملك، فلما قرأها قال: أتدري ما فيها؟ قال: فيها عجب، كيف ملكت العرب غير هذا؟ أفتدري ما أراد؟ قال: لا، قال: حسدني عليك، فأراد أني أقتلك، فقال الشعبي: لو رآك يا أمير المؤمنين ما استكبرني. فبلغ ذلك ملك الروم، فقال: والله ما أخطأ ما كان في نفسي.
ومن محاسن الفراسة: أن الرشيد رأى في داره حزمة خيزران، فقال لوزيره الفضل بن الربيع: ما هذا؟ قال عروق الرماح يا أمير المؤمنين، ولم يقل الخيزران لموافقة اسم أمه.
ونظير هذا أن بعض الخلفاء سأل ولده –وفي يده مسواك- ما جمع هذا؟ قال: محاسنك يا أمير المؤمنين، وهذا من الفراسة في تحسين اللفظ، وهو باب عظيم اعتنى به الأكابر والعلماء، وله شواهد كثيرة في السنة وهو من خاصية العقل والفطنة، فقد روي عن عمر، رضي الله عنه: أنه خرج يعسّ المدينة بالليل، فرأى ناراً موقدة في خباء، فوقف وقال: (يا أهل الضوء) وكره أن يقول: يا أهل النار، وسأل رجلاً عن شيء: (هل كان؟) قال: لا أطال الله بقاءك، فقال: قد علمتم فلم تتعلموا، هنا قلت: لا وأطال الله بقاءك؟
وسُئل العباس: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو أكبر منّي، وأنا وُلدت قبله. وسُئل عن ذلك قبات بن أشيم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر منّي، وأنا أسنّ منه.
ومن ألطف ما يُحكى في ذلك: أن أحد الخلفاء سأل رجلاً عن اسمه؟ فقال: سعد يا أمير المؤمنين، فقال: أي السعود أنت؟ قال: سعد السعود لك يا أمير المؤمنين، وسعد الذابح لأعدائك، وسعد بلع على سماطك، وسعد الأخبية لسرك، فأعجبه ذلك. ويشبه هذا: أن معن بن زائدة دخل على المنصور، فقارب في خطوه، فقال له المنصور: كبرت سنك يا معن، قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: إنك لَجَلد، قال: على أعدائك، قال: وإن فيك لَبَقيّة، قال: هي لك.
وفي الختام لا بد أن أحشر نفسي وأقول: إن لديَّ شيئاً من الفراسة التي تشبه (التياسة) –ولا فخر.