بقلم - يوسف الديني
لا يمكن فهم الموقف السعودي وعقلانية الرياض تجاه إحدى أكثر الحملات ضجيجاً واستهدافاً عقب قرار «أوبك بلس» الذي هو من صميم حماية السوق إلا بالعودة إلى التقاليد الراسخة لبيت الحكم في السعودية منذ نشأته، والتي تسير بثبات وبنبرة صوت معتدلة تقودها حكمة محّصتها تجربة عقود طويلة وتاريخ ضارب بأطنابه إلى جذور العروبة الحقة لا المدّعاة.
وربما كانت «نخوة العوجا» أشهر قصائد العرضة المرتبطة بالوجدان السعودي لارتباطها بنشأة هذا الكيان وتوحيده، مفتاحاً لفهم التماسك والهدوء والعقلانية والتفوق الدبلوماسي على مستوى اللغة والخطاب وعدم الانجرار لمربع «الضجيج السياسي» الذي يعكس حلبة الصراع على الانتخابات وبشكل يفتقد للمنطق.
العوجا هي الدرعية ونجد العذية في هذه النخوة والرقصة التي تهز وجدان السعوديين ويتكرر صداها على مدى قرون تتحدث كلماتها عن العزة والكرامة وقيم الأصالة والتقاليد السعودية، وهناك العديد من الدراسات عنها توثيقاً وجمعاً وقراءة، إلا أنها أيضاً اليوم في حاجة إلى قراءة من زاوية الأركولوجيا السياسية وحفريات المخيال الخلاق للعقلانية السعودية والحزم واعتبار السيادة خطاً أحمر، وربما كانت هذا البيت الأكثر دلالة على هذا المعنى اليوم «صعبة أفعالنا لابغاها غيرنا - وكلمة التوحيد حنا عمار رسومها».
السعودية اليوم تقف في قلب العقلانية السياسية، حيث صوت الاعتدال والقيام بما يبدو للمتحيّزين وذوي القراءة السطحية أفعالا صعبة ومستحيلة.. تسعى للتوحيد بمعناه الشامل ما يحقق الاستقرار لمنطقة مضطربة بدت متخيلة عن منطق الدولة وعالم يعيش صراعات «اللايقين» والانتهازية، تسعى لذلك من دون افتعال أو تكلف أو أجندات خفية، لكن بحزم ووضوح ووضع للنقاط على الحروف.
من الأفعال الصعبة التي رسّختها التقاليد السعودية اليوم والمخيال السياسي في تجاوز الأزمات منذ النفط في السبعينات إلى 11 سبتمبر (أيلول)، واليوم مع قرار «أوبك»، هو «الصوابية السياسية» بمعناها السعودي، فهي ضد تفسير أزمة كالحرب بين روسيا وأوكرانيا من منظور واحد ضد استخدام العنف للحق السياسي وقامت بمعونة أوكرانيا، لكنها ترفض التخلي عن مصالحها الاقتصادية ومنها الطاقة لمجرد فشل إدارة الرئيس بايدن في معالجة الملف داخلياً ومحاولة ترحيل أزماته مع ما كان يعدّ به من التحول من الوقود الكربوني إلى الطاقة النظيفة على افتراضات أقرب إلى الخيال؛ مما جعله أمام مأزق يختلف عن كل دول العالم، حيث أسعار النفط في الداخل الأميركي هي في النهاية نتيجة قرارات السياسيين، حيث كانت قادرة على إنتاج أكثر مما تستخدمه، وكلنا يتذكر أنها قبل ثلاثة أعوام كانت مصدراً للنفط الخام والمنتجات البترولية، لكن المشهد تغير حين عادت إلى مصاف المستوردين بسبب السياسات النفطية للديمقراطيين فيما عرف بالامتناع (وربما التعالي) المستعجل عن الوقود الأحفوري، وبدأت حينها الوعود عبر استراتيجيات حظر الحفر وإغلاق خطوط الأنابيب وتوقف برامج البنى التحتية.
في المقابل، تفرض الولايات المتحدة سياساتها على الغاز وبشكل يضرّ اليوم بشركائهم الأوروبيين، وبينما تُتهم السعودية بمساعدة روسيا رغم إدانتها للحرب ومساعدتها للأوكرانيين تحاول تمرير اتفاق نووي هش وخطر جداً على أمن حتى حليفتها إسرائيل مع طهران التي ترسل صواريخها عبر الحوثيين والميليشيات المعادية لـ«الشيطان الأكبر»، حسب وصفهم لأميركا ذاتها، وتستهدف مصافي النفط وحقول البترول السعودية التي تطالبها اليوم بتأجيل قرار الإجماع لـ«أوبك بلس» شهراً، وهو توقيت لا يقل غرابة وريبة حتى باعتراف العقلاء في أميركا.
عن قرار التخفيض أيضاً فالعقلانية السعودية تبدت في الردود الفنية المذهلة والتعليقات السياسية الهادئة، التي يمكن اعتبارها تجسيداً لذلك الاستثناء في الأفعال الصعبة على غير السعودية، ومعظمها ركز على تناقضات ارتفاع الأسعار وتسريبات الإملاءات على دول الأعضاء وأن حصص «أوبك بلس» غالباً لا تفي بحصصها وأن قرار الخفض رغم مراعاته مصالح المملكة، لكنه أيضاً يراعي مصالح الدول الأعضاء وفي مقدمتهم دول الخليج، كما أن أي ردة فعل أميركية بإنتاج المزيد هو ما سيخلق صدمة كبيرة لأسواق الطاقة.
بالأمس كانت كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، درة التاج في ترسيخ العقلانية السعودية باعتباره حكيم الأمتين الإسلامية والعربية والمرجع الأول للتقاليد العريقة والتفاصيل الصغيرة لتقاليد «الدرعية»، والذي دعا منذ أن كان أميراً للرياض وبمتابعة يومية بتوثيق تلك التعاليم لأهل العوجا، والذي أكد أن «ما يشهده العالم من حروب وصراعات يحتّم العودة لصوت العقل والحكمة وتفعيل قنوات الحوار والتفاوض والحلول السلمية بما يوقف القتال ويحمي المدنيين ويوفر فرص السلام والأمن والنماء للجميع».
وبحضور ولي عهده مهندس الرؤية الأمير محمد بن سلمان، رئيس مجلس الوزراء، للدورة الثامنة من مجلس الشورى بالسعودية، أشار إلى الجانب الإنساني العظيم لهذه الدولة الفتية، حيث أكد أنها دوماً «تعمل جنباً إلى جنب مع شركائها الدوليين لتخفيف وطأة الآثار السلبية للنزاعات المسلحة وانعكاساتها المؤلمة على الأمن الغذائي».
رغم كل الضجيج الذي لا يستحق ذكره، أشير فقط إلى أن السعودية من دون منّة أو تسويق أو افتعال هي من أكبر 3 دول مانحة على مستوى العالم وفي مجال المساعدات لتخفيف الجوع الذي تسببه النزاعات الدولية تجاوزت المساعدات السعودية 2.8 مليار دولار.
في معسكر الضجيج اليوم الذي يعجّ به مدرج إدارة بايدن وكأنه في خضم لعبة قدم أميركية يوشك فريقه على خسارتها الوضع مغاير تماماً، هناك خلل كبير في إدارة اللعبة السياسية، وضعف استراتيجي، وفقدان لقواعد اللياقة الدبلوماسية ولغتها ومنطقها، علاوة على فهم السياق العالمي الجديد بتوازناته وأوزانه السياسية.
العقلانية السعودية المستندة إلى ركائز الحكم الرشيد وحكمة «أهل العوجا» صمام الأمان لعالم من الضجيج السياسي مثل ما تفعله طاقتها ونفطها لاستقرار أسواقه.