في لحظات التحول الكبرى تاريخياً، خصوصاً في المجال الجيوسياسي، تنجو الدول التي أدركت مبكراً أن استعادة منطق الدولة أهم من تقويضه، وأن الأنظمة السياسية المستقرة لا تُبنى على تفاهمات الكبار وحدها، بل على احترام حقائق الأرض وتمتين الداخل والاستثمار في الهويّة والمواطنة، وهو درس قديم؛ لكن نراه يتجدد اليوم بمستويات متباينة. ليس من التحّيز القول إن تجربة السعودية منذ رؤيتها الطموحة شكّلت أحد أهم النماذج التي يمكن الاستفادة منها في شرق أوسط شديد السيولة.
اليوم، وفي حين يحاول الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن يُعيد رسم النظام العالمي بمعادلات قسرية قائمة على التواطؤ مع رؤية ضيقة عنصرية غير سياسية تمارسها إسرائيل بشكل يخالف أبسط مبادئ القوانين الدولية؛ يتم تجاهل أحد أهم الدروس المركزية في فهم منطقة الشرق الأوسط وتعقيداتها: المنطقة لا تُدار بالمساومات النيئة، ولا يمكن تصفير أزماتها تحت صفقات نفوذ على حساب العدالة والسيادة.
مقاربة «ترمب 2.0» التي يحاول فيها أيضاً تحديث استراتيجية الضغط الأقصى، متمسكاً بفكرة أن دفع الأنظمة إلى حافة الانهيار قد يفتح أبواباً لتفاهمات كبرى، لا تبدو أنها تعمل في عالم تظلّ فيه الولايات المتحدة القوى الأهم والأكثر تأثيراً؛ لكنها لا تنفرد فيه بشكل كامل، ولهذا فإن تحطيم الهياكل الوطنية في الشرق الأوسط لا ينتج استقراراً، بل فراغات تعبّر عن نفسها بشكل عنيف عبر صعود الكيانات ما دون الدولة والآيديولوجيات العابرة للحدود، المنطق الذي يريد الاستثمار في الخراب والجراح والموت من دون معالجة الواقع، مما يصنع أشكالاً جديدة من الانفجار، تختلف الأسماء، تصعد وربما تذبل وتموت؛ لكن بقاء الدافع يشكّل حاضنة لولادات هجينة ومفاجئة من العنف غير المروّض تحت منطق الدولة.
جرح غزة يبقى مفتوحاً أمام أعين العالم اليوم، وهنا الحديث عن المدنيين الذين يتحمّل المجتمع الدولي والولايات المتحدة السلوك الإسرائيلي. كما هي الحال مع الميليشيات المؤدلجة التي تعبّر عن الانسداد السياسي بالاستثمار في الدم للأسف والبقاء والتنفس عبر الشقاق داخل أبناء القضية الواحدة.
أهل غزة وقضية فلسطين خارج أقواس «حماس» وكل محور المقاومة لا ينبغي أن تكون مبرراً لهذه الوحشية التي بلغها الصلف الإسرائيلي، كما أنها ليست دافعاً وحيداً يفسّر ظاهرة صعود الميليشيات أو تفشي الفوضى، لكن الأكيد أن هذه العدمية التي تعيشها المنطقة اليوم مع تراكم الأزمات من كل حدب وصوب تغذّي بيئة خصبة لثقافة الغضب الجمعي الذي تقتات منه الكيانات ما دون الدول بكل أطيافها، كما أنها تدفع الدول التي لم تستثمر في منطق الدولة وتقوي جبهتها الداخلية بالاستثمار في المواطن والرفاه، إلى حالة تهديد يقوّض محاولاتها لترميم انكساراتها الاقتصادية التي تلقي بظلالها على تحديات منطق الدولة.
في مشهد مثل هذا، تصبح المعادلة أكثر تعقيداً: كيف يمكن لدول المنطقة أن تحمي منطق الدولة، في حين تتصاعد تحت السطح تيارات عابرة للحدود تتغذّى على الإحساس بالخذلان والقهر؟ الشرق الأوسط، رغم تعدد مصالح دوله وتضارب أولوياته، ليس مجرد خريطة مصالح متنازعة. إنه متخيل ثقافي حيّ، تقف فيه الذاكرة والهوية إلى جانب السياسة. ما يحدث في غزة للمدنيين والأبرياء يتردد صداه في وجدان، حتى الأجيال الجديدة تعيش فترات التحشيد الأصولي أو ثقافات العنف؛ لكنها ستكون مدفوعة بتلك العدمية التي يستثمر فيها خطاب التطرف.
هنا تظهر أهمية الاستماع في مقاربة أي حلول سياسية للمنطقة إلى منطق الدولة خصوصاً في دول الاعتدال، وفي مقدمتها السعودية، التي تقدم نموذجاً عقلانياً لدولة تضع مصالحها الإقليمية ضمن منطق دولاتي صارم وواقعي، رافضة الانجرار وراء تصعيد الهويات الطائفية أو دعم الكيانات الموازية التي تعمّق الانقسام. إنها تفهم أن بناء الاستقرار يبدأ من دعم سيادة الدول، لا من تفكيكها. وإن أمن الإقليم لا يُصان عبر توسيع نطاق الميليشيات، بل عبر تجفيف بيئة اللادولة. وهذه مهمة أكثر تعقيداً مما يبدو: أن تواجه تدفقات الغضب والخذلان، من دون أن تستسلم للفوضى، ومن دون أن تبررها.
حين تحاول إدارة ترمب أن تفرض تفاهمات النفوذ مع الدول الصاعدة اليوم مثل الصين وروسيا، فإنها تتعامل مع الشرق الأوسط كأنه مساحة قابلة لإعادة الترتيب من فوق وبطريقة استعلائية، مع تجاهل صارخ للواقع المتحرك تحت السطح. الواقع أن نزاعات الشرق الأوسط في الدول التي مسّتها رياح التغيير ليست مجرد انعكاس لصراع النفوذ بين القوى الكبرى أو حتى إسرائيل بقدر أنها أيضاً جدل مطوّل حول مفاهيم الشرعية والعدالة والبحث عن بقعة ضوء في نفق طويل من تجربة تآكل الدولة ومنذ ما سُمّي «الربيع العربي» وحتى اليوم، وهو ما يجعل أي تسوية في ظل تجاهل هذه الطبقات المعقدة للحالة السياسية مجرد وقف هشّ لإطلاق النار، لا بناء حقيقياً لمستقبل سياسي جديد.
النظريات السياسية الكلاسيكية من النظام الدولي تعتمد على الاعتراف المتبادل بين القوى الكبرى بمناطق نفوذها وتحالفاتها، لكن في واقع ما بعد تراجع العولمة وصعود الهويات والتنافس الدولي على تجاوز مسألة القطبية الواحدة فإن التفاعلات بين الدول تستند إلى أن الشرعية المحلية قوة الداخل حيث لا يمكن لقوة خارجية، مهما بلغت سطوتها، أن تصنع دولة قابلة للاستمرار من دون أن تحصل على قبول داخلي حقيقي مبني على الثقة والمواطنة التي تسع الجميع ولا تصنع في غرف المفاوضات.
سياسات الصفقات المربحة قصيرة النظر؛ لأنها ستخلق تكاليف أكبر خصوصاً في منطقة شديدة السيولة والتعقيد مثل الشرق الأوسط الممتلئ بالحيوية والتطلع إلى المستقبل بفضل التركيبة السكانية التي يحتل الشباب النسبة الأكبر منها، لكنه مهدد أيضاً بتنامي شعارات كيانات ما دون الدولة التي تنشأ وتنمو في ظل الفوضى، ورأينا ما حدث في الأردن مؤخراً وما يمكن أن يحدث أيضاً في مناطق أخرى تتوغل فيها الانقسامات الآيديولوجية والميليشياوية تحت قناع «الدولة».
لن تستقر المنطقة ما دام العالم يتعامل مع أزماتها بصفتها ملفات تفاوضية من دون حماية منطق الدولة والاستثمار فيه، وتجفيف منابع الآيديولوجيات العابرة للحدود... استعادة الدولة الوطنية الطريق الوحيد لبناء سلام مستدام في المنطقة، وهذه مهمة أعقد بكثير من تفاهمات عجلة.