بقلم : يوسف الديني
مع كل احتفال مستحق بيوم التأسيس يعود الباحثون للحرث في مدونات التاريخ الأساسية، لاستلهام ما يمكن الكتابة عنه بشأن التجربة المبكرة لمفهوم الدولة التي تطورت عبر قرون، ثم نتج عنها هذا الكيان العظيم، لكنَّ الأكيد أن ثمة صوتاً يتنامى اليوم للقفز على الكتابات ذات طابع تدوين الأحداث وما يسمى «الماجريات»، إلى محاولة قراءة تشكّل بدايات مفهوم الدولة في الدرعية مع كثير من التحديات البحثية على مستوى المراجع والتوثيق وتحليل المدونات الشفهية وقراءة التاريخ عبر نصوص غير مكتوبة، منها الآثار والنقوش والوثائق غير المعتادة مثل الصكوك والمراسلات، ويمكن مع الوقت تشتد الحاجة إلى تحويل هذه المحاولات إلى عمل مؤسسي ضخم، خصوصاً مع ما نراه من التحول الكبير على مستوى القراءة والنشر والمتابعة والانزياح من الرواية والأجناس الأدبية إلى كتب التاريخ والمذكرات.
لدينا إشكالية في المصادر المبكرة يعرفها الباحثون جيداً حتى في التاريخ الإسلامي، منذ الإسلام المبكر مروراً بالتحقيب، ووصولاً إلى إعلان نهاية الخلافة العثمانية وبداية الدولة القُطرية، وهي أن المصادر يهيمن عليها حقل الكتابة ذات الطابع الديني وهذا ينطبق على المصادر، كما هي الحال في تاريخ المجال العام، وهو لا يخص الإسلام، بل ظاهرة حتى في الأديان الكبرى التوحيدية وغيرها، فهي تنتمي إلى ما يوصف عادة بالتدوين التاريخاني الديني، بمعنى التركيز على تاريخ التحولات الفكرية والثقافية الكبرى وليس السياسية، وذلك لأسباب كثيرة يطول شرحها، منها أن المؤرخ غالباً قادم من الحقل الديني في التجربة الإسلامية «الحديث والإسناد والرواية»، وأيضاً فإن تأثير الحراكين الفكري والديني على النزاعات المجتمعية هو ما يتم تسجيله باعتباره ينتمي لمقولات الكلام، وإن كان منزعه هو السلطة التي منذ الفجر الأول كانت محركاً أساسياً للفضاء الديني «يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، وهو من أشهر الأقوال السياسية الكبرى المأثورة في تراثنا عن دور السلطة في تثبيت الاستقرار السياسي، ورُوي حديثاً وعن مجموعة من الصحابة والتابعين، وشاع أنه من المقولات المأثورة التي نسبت إلى أكثر من قائل، لكنها ذات دلالة مهمة على مستوى أسبقية السلطة السياسية.
إشكالية الكتابة التاريخية للسلطة السياسية ما قبل مدونات الدعوة كانت مثار التساؤل لدى كثير من الباحثين، وخُصص لها كثير من الأوراق والكتب؛ أشهرها مقالة المؤرخ الشهير عبد الله العثيمين «نجد من القرن العاشر»، ومقالة لمنصور الرشيد «قضاة نجد أثناء العهد السعودي»، وكلتاهما نشرت في مجلة دارة الملك عبد العزيز، الكيان الأكثر قدرة إلى اليوم على استيعاب كل الأطروحات الجديدة التي يتم طرحها في حقل التاريخ العصري للدولة السعودية، وربما كان ظهور تاريخ ابن عيسى في 22 مجلداً والرغبة في استيعاب مصادر لم تنشر من قبل بتحقيق علمي، ومنها تاريخ ابن منقور، مؤشر هذا النهم الذي نراه في المشهد التاريخي السعودي، باحثين وقراء ومهتمين.
الأسلوبية أيضاً أحد أكبر التحديات في كتابة التاريخ الوطني بهدف التنويع وإشباع نهم كثير من المتلقين، خصوصاً على مستوى طلاب الجامعات، وهناك فرصة هائلة مع صدور كثير من الترجمات لما يكتب عن السعودية مما تعنى مكتبة الملك فهد الوطنية بتسجيله وحفظه، لحث المتخصصين والمبدعين على كتابة سرديات تاريخية بأسلوب إبداعي، وهو ما يعرف بكتابة التاريخ الجزئي أو التاريخ الدقيق (Microhistory)، لا سيما أن التاريخ السياسي للتجربة السعودية ديناميكي متحرك يتعامل بواقعية ذكية في الحفاظ على الاستقرار والرفاه، بينما كثير مما كتب من تاريخ الدعوة والأفكار كتب بطريقة غائية لا تاريخية.
تشجيع الكتابات التاريخية الحديثة سيسهم في تلبية حاجة القراء في الداخل والخارج إلى فهم سياق التجربة السعودية ونجاحها، الذي استدعى محاولة فهم البدايات وتفاصيلها عدا مقالات وأبحاث صغيرة أسهمت في قراءة جديدة للتاريخ الوطني من زاوية الاستقرار بالمفهوم الأوسع، وهو مفتاح كلّي متى ما فهمناه في سياقه الواقعي وبشكل غير مؤدلج يضع كل الأفكار الدينية في سياقها التاريخي، لا محاكمتها خارج الظروف التاريخية ومقارنتها بالخطابات الدينية، باعتبارها سجالاً داخل الحقل الديني وليس الحقل السياسي، باعتبار أن نظرية الحقول التي أبدعها فيلسوف الاجتماع الكبير بيير بوردو والسلطة كخطاب لفوكو وغيرها من أدوات العلوم الإنسانية المهمة لفض الاشتباك بين القراءات المتباينة للتاريخ والاحتراب حول نتائجها من دون منهج ونظرية متماسكة.