بقلم - يوسف الديني
النجاحات العريضة لإدارة موسم الحج في كل سنة كانت الرد السعودي العملي على كل التخرصات حول ملف تسييس الحج والمواسم الدينية الذي بات من الملفات الموسمية التي يعاد تدويرها في المسلسل الرخيص لاستهداف المملكة، واللعب على مسألة السيادة والأوزان السياسية الكبرى لدولة لا يمكن استهدافها إلا من خلال التشغيب، ومحاولة الانتقاص من صدارتها في قيادة العالم الإسلامي.
هذا المسلسل كانت تديره طهران سابقاً من بوابة الطائفية. وحين فشلت، وأثبتت للعالم أنها أكثر الدول استغلالاً للمواسم الدينية في تصدير آيديولوجيتها الثورية ورعاية الإرهاب، دخل نظام إردوغان على الخط، مدفوعاً -بالمعنى المادي والمعنوي- من نظام الدوحة، لمحاولة اللعب بالأدوات ذاتها، من خلال محاولة تسييس المواسم الدينية، وبشكل أكثر شراسة، في محاولة لاختطاف قيادة العالم السني الذي تتربع عليه المملكة منذ تأسيسها، بسبب شرف خدمة الحجيج، والجغرافيا السياسية، والتاريخ المشرف منذ لحظة المؤسس الذي رفض تسييس الحج مبكراً في أول لقاء مع مرشد جماعة «الإخوان»، حسن البنا. كما أنه أوضح للبنا، ولآخرين من خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومساجليه على المستوى العقائدي، أن الحج لجميع المسلمين، باختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم. ويذكر المحدث المغربي المتصوف الشيخ أحمد الغماري، وقد كان من كبار المناوئين لدعوة الشيخ ولابن تيمية، في مذكراته، قدومه للحجاز للحج، وكيف أن الملك عبد العزيز أكرمه، وخصص له سيارة خاصة لمكانته العلمية، رغم مواقفه العقائدية المضادة، وهذا سر تعاقب النجاحات السعودية في إدارة ملف الحج، من دون تسييس أو تمييز ديني أو عرقي أو عقائدي.
ترقب العالم، بوكالاته ومصادره الإخبارية، موسم حج ما بعد جائحة «كورونا»، لكن السعوديين كانوا على ثقة كاملة بأن شيئاً ما لن يتغير لأن شرف خدمة الحجيج جزء من الهوية الدينية والسياسية لهذه البلاد؛ كان القرار في غاية الذكاء السياسي والاعتدال الديني، حيث تم تقديم الآخر على الذات، برفع نسبة الحجيج من غير السعوديين بسبب محدودية الأعداد، ورفع مستوى التنظيم إلى الشكل الذي رآه الجميع على محطات التلفزة، من دون مواربة أو إخفاء في عالم الميديا والإشاعات والتصيد. وكان المشهد رغم كل التحديات يبعث على الفخر بهذه المهمة التي وصفها خادم الحرمين الشريفين، في لقاء قديم له مع العلماء في الجامعة الإسلامية، بأنها أهم ما توليه القيادة السعودية الاهتمام، كونه شرفاً ومنحة إلهية أن مكنها الله من خدمة الحجيج.
ما يدركه السعوديون اليوم، قبل غيرهم، أننا نعيش في السعودية الجديدة، مملكة العناية بالتفاصيل الصغيرة لتجاوز التحديات الكبرى، فالأمر لا يقتصر على موسم الحج، بل يمتد إلى ملفات شائكة وقضايا بالغة التعقيد، من مكافحة الفساد إلى مشاريع عملاقة إلى تمكين المرأة، وصولاً إلى إعادة تعريف للكسب وحياة الرفاه، والاهتمام بالثقافة والفن، والعودة بمجتمع تغيب عن أسلوب حياة عصرية لعقود كانت، بحسب الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، استثناء لا يعكس الصورة التي يجب أن تكون عليها السعودية الجديدة التي تهيمن الدماء الشابة على النسبة الأكبر من وقودها في قطار المستقبل السريع الذي لا يحتمل الانتظار.
وفي سياق الرؤية التي أحدثت جدلاً وتفاعلاً كبيراً حولها، يمكن القول إن جذرها الأساسي يتمحور حول نقل اقتصاد السعودية الذي يعتمد بأغلبيته على عائدات النفط إلى اقتصاد متنوع حيوي متجاوز لـ«إدمان النفط»، عبر تنويع الموارد وتخفيف الأعباء عن الدولة نتيجة الاقتصاد الريعي، والتركيز على توسيع ودعم القطاع الخاص لخلق فرص عمل للأجيال الجديدة.
الجديد في الرؤية السعودية أنها تجاوزت الفصل بين التنمية الاقتصادية ودوافعها الفكرية وقاعدتها السياسية والثقافية؛ في الرؤية الجديدة التي أطلقت عدداً من المشاريع التنموية التي لم تنبت كطروحات مالية أو تحليلات اقتصادية مفرغة من سياقاتها الفكرية، بل تمت إضافة «المعنى» لها في سابقة سعودية، حيث كانت تعتمد الخطط التنموية على التمحور حول الاقتصاد وتسريع عجلته، مع البقاء في السياق التحديثي في إطاره المحافظ، وحده الأدنى الذي لم يعد صالحاً للتكرار في ظل المعطيات الجديدة؛ أجيال شابة وطموحات كبيرة، واقتصاد السوق العالمية، ودخول مجموعات كبيرة من الشباب والفتيات من المواطنين إلى سوق العمل قادمين من تجارب ابتعاث، ومسلحين بأحدث ما وصلت إليه الجامعات العالمية من معارف وتطبيقات حديثة.
في هذه التجربة التنموية الجديدة، دشن خطاب تحديثي جديد، شدد على محاربة التطرف، وملاحقة منتجيه ومصدريه، بصفته أحد أكبر عوائق المسار التنموي، وأكثر المهددات لأمن الأوطان واستقرارها. هذه الإضافة كانت صادمة للمراقبين لـ«رؤية 2030»، في الداخل والخارج، حيث لم يتم الاعتياد على هذا القدر من المواجهة والصراحة في التعاطي مع حساسية الشأن السياسي المتقاطع مع الديني، لكن اللحظة الفارقة هي إعادة الأجيال الجديدة إلى ذاكرة قريبة، وهي 1979، حين بلغ التأزم والتشدد الديني أقصى حدوده، باقتحام الحرم المكي قبلة المسلمين، بدعوى المهدوية ونهاية الزمان، التي هي في معناها الرمزي «نهاية المستقبل» والانسداد التاريخي. ومن هنا، فإن التذكير بهذه اللحظة لم يأتِ بصفتها نقطة فاصلة في التاريخ السعودي الحديث فحسب، بقدر دلالاتها المكثفة على أن من يريد تعطيل المستقبل، وادعاء نهاية الزمان السعودي، لا مكان له في الرؤية الجديدة.
في السعودية الجديدة، تم طي صفحة مهمة من الوصاية التي دشنها الفكر المتطرف منذ ترسخ مفهوم الدولة ومؤسساتها، عبر انحيازه لمربع المعارضة لمسيرة التنمية والتطور، بشعارات آيديولوجية ذات صبغة دينية متشددة. واليوم، يقطف السعوديون ثمرة تحولات ورضات كلفتهم كثيراً، إلا أن المآلات ذات الكُلفات الثمينة عادة ما تثمر رغبة ملحة في القطيعة مع مرحلة صعود الإسلام السياسي في المنطقة، وليس في الخليج أو السعودية، وتحوله إلى مشروع دولة داخل الدولة، وقد رأينا قبل أيام فقط مستوى الصراحة والنقد لكل الملفات المتصلة بشخصيات فاسدة، مهما كان وزنها أو دورها في السابق.
وبإزاء التصحيح فيما يخص الأفكار، وحتى لا تكون مرسلة في التنفيذ والتطبيق، سارعت السعودية الجديدة إلى تدشين أكبر مشروع نقدي للذات، عبر مكافحة الفساد، وملاحقة الشخصيات التي تقف وراءه، على قاعدة صارت مثلاً: «كائناً من كان»، في خطاب الأمير محمد بن سلمان الذي لم يطل الوقت حتى قام بتحويله إلى قرارات تأخذ حيز التنفيذ، ضمن خطة تصحيحية سبقتها خطوات تشريعية تتصل بالأراضي البيضاء، وفرض الرسوم عليها تحفيزاً على الاستثمار.
الرؤية الجديدة للسعودية أسست لمنهجية جديدة تسعى إلى القطيعة مع غياب دور الفرد - المواطن، الذي كان سمة الثقافة العربية، وسبباً في تعطيل المشروع الحداثي، بعكس السياق الغربي الذي كانت العلاقة فيه طردية بين تطور مفهوم الفرد وقوة الدولة وازدهارها الاقتصادي؛ نحن بهذا الفهم للفردية أو الفردانية نتحدث عن فرد جديد في الزمن ما بعد الصناعي القائم على المبادرة الفردية والابتكار الشخصي، وحرية الناس في التعبير والاتصال، وشعورهم بذواتهم، حيث باتت هذه المسائل تلعب دورها في الاقتصاد أكثر من السابق، بعيداً عن الطروحات الشمولية والجمعية التي عادة ما تنتج قطيعاً من «المؤمنين بالآيديولوجيا»، لا بالوطن.
الاعتدال الفكري والتسامح الديني في الرؤية السعودية الجديدة ليسا خياراً أو مجرد شعارات دعائية أو رسائل للخارج، بل مطلب ملح لمنع العوائق ضد مشاريع التنمية الآتية التي تتطلب تحرير الفرد السعودي من قائمة طويلة من الملفات العالقة في التشابك الديني السياسي والاقتصادي في خطابنا المعاصر، التي لا تخرج عن كونها موضع اجتهاد يقابله اجتهاد مثله. العلاقة. بمرور الوقت، ذابت هذه المخاوف، وحل محلها الاحترام والخطوط الحمراء التي يتفهمها الطرفان. لم يعد حضور المرأة السعودية لمكان عمل مختلط أمراً مريباً أو مثيراً، وصداقات العمل حلت محل الخوف والتربص. كان خطأ جسيماً أن ظلت المرأة منفصلة عن الرجل لعقود؛ لأن التأثير السيئ لم يطل فقط المجال الاقتصادي؛ بل حتى اجتماعياً وُضعت في إطار «العيب» وكسر الخصوصية، حتى ضاعت حقوقها شيئاً فشيئاً. ووصل التأثير حتى للعلاقة الزوجية؛ كون الرجل لا يعرف من النساء سوى والدته أو شقيقته، وهي علاقة مختلفة تماماً عن العلاقة الزوجية الخاصة التي تفترض فيها الشفافية والإقبال على الآخر. والواقع المحزن أن هذا التباعد بينهما دمَّر بيوتاً كان يفترض أن تكون قائمة، وشتت أُسراً لم يعرف ربان سفينتها كيف يقودها، مع إنسانة نشأ وشب على أنها إما أنها صيد لغرائزه، وإما ضربة حظ قد تصيب وقد تخيب.
نحمد الله على أن المرحلة السيئة قد عبرت، وأُعيد الاتزان للعلاقة بين الطرفين؛ بل وإن هذا التغيير أشاع روحاً من التحدي والحماس للنجاح وإثبات الذات.
فكرة أن المرأة من كوكب الزهرة والرجل من المريخ، فكرة من فنتازيا المؤلفين. كلاهما من الأرض، واختلاف الطبائع يصنع البدائع؛ خصوصاً في مجتمع متعلم، متأهب لمزيد من التطور، مع الرهان على وعيه.