بقلم - يوسف الديني
البشرية قادرة على تجاوز أصعب المحن مهما طال أمدها، ورائحة «كورونا» ليست استثناء من ذلك، هذا ما يقوله التفكير العقلاني والمنطقي، وكثير من الأمل المفقود هذه الأيام، كما هي الحال مع العقلانية الغائبة بسبب حالة الفوضى والارتباك في التعامل مع الجائحة بشكل أمثل.نحن محظوظون جداً في عالم اليوم بالتقدم العلمي الكبير وغير المسبوق في التصدي للمستجدات التي هي جزء من طبيعة الحياة وتحدياتها، فحتى كتابة هذا المقال في كل منصات البحث العلمي المتخصصة، بلغت الدراسات الطبية الموثقة التي تم نشرها بشكل تكافئي في محاولة لفهم فيروس «كورونا» أكثر من 2000 دراسة. اكتشاف الخريطة الجينية له لم يأخذ سوى بضعة أيام فقط؛ لكن المثير للسخرية والإحباط أن حجم الفوضى على مستوى المحتوى والمعلومات، والإشاعات، ونظريات المؤامرة، ونهم مواقع التواصل الاجتماعي، وفقدان البوصلة الإعلامية النزاعة للإثارة، طغى على كل ذلك، وانضمت عوامل عديدة لصنع ما يمكن وصفه بحالة «اللايقين» والتشكك في كل شيء. فما الذي حدث بالضبط بغياب صوت العقلانية والعلم في مقابل تدفق طوفان الأوهام والتضليل الذي قادته شخصيات مؤثرة في عالم الإعلام الجديد بدوافع انتهازية، أبزرها نهم زيادة أرقام المتابعين، ومحاولة الصعود على جثث الموتى وضحايا المرض؟!
العودة إلى الحقائق الأولية، والتسلح بأدوات عقلانية في قراءة المشهد العالمي اليوم، يمكن أن يسعفانا في فهم ما يحدث، الذي يعكس فجوة كبيرة في التعامل مع علم النفس البشرية، كما هي الحال في الفجوة بين المؤسسات الطبية الدولية الكبرى، بسبب حالة الاستقطاب السياسي غير المبرر، وإن كان متفهماً بسبب معضلات التمويل، والحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة التي أخذت مساراً تصاعدياً ما بعد الجائحة، بينما لو ظهر الفيروس في بلد ناءٍ من العالم الثالث لاختلفت آليات التعامل مع الأزمة بشكل كبير، كما هي الحال لو تحلت الصين ومنظمة الصحة منذ البداية بمسؤولية وشفافية أكبر.
«كورونا» للأسف أعادنا بسبب حالة التسييس المبكرة للأزمة إلى صراع البشرية قبل قرون، بعد أن نجح العلم ولا يزال في فك كثير من الأسرار، وتحول إلى أداة فعالة في تجاوز المستجدات، إلا أن عدم استقلاليته بسبب التمويل وفجوة نقل مستجداته إلى محتوى سيار ومنتشر، عكس الخطابات الخرافية والمستندة للمؤامرة، ساهم في حالة اللايقين والهشاشة، بحيث بات من السهل على شخصيات كاريزمية استناداً إلى خطاب الوعظ والاستغلال العاطفي النفسي، أن تخلق حالة من الفوضى السياسية والإعلامية الكبرى. ويجب أن يقال إن صعود الشعبوية السياسية التي كثفها الرئيس ترمب في تناوله للأزمة، جرف معه شعبويات طبية وثقافية وإعلامية؛ بل وساهم في جر خصومه من الديمقراطيين إلى استخدام الأدوات الشعبوية ذاتها في محاولات لا تتوقف، وآخرها أزمة جورج فلويد في محاولة لإسقاطه في الانتخابات المقبلة.
في خضم فوضى التسييس، لا يزال العلم مع الأمل الخلاص البشري الوحيد، لاستكشاف عدد من العلاجات الممكنة وتطوير لقاح. وتتضافر العلوم الإنسانية المرافقة للطب لفهم آليات ونظريات إدارة الأزمات والحشود، وانتقال الأوبئة، باستخدام أكثر وسائل التكنولوجيا تطوراً، في محاولة للحماية وإبطاء انتشار المرض، ومقارنة بسيطة بجوائح سابقة في التاريخ قبل 100 عام فقط، كجائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 التي أدت إلى مقتل 50 مليون شخص. ومع كل هذا التقدم لا تزال الإنسانية اليوم بسبب هذا المزيج من التحيزات السياسية والاحتياج إلى التواصل البشري اقتصادياً واجتماعياً، إضافة إلى عديد من الدوافع والتحيزات والعواطف، تشعر بالقلق من حالة اللايقين؛ لكنها تعالجه بالهروب إلى الأوهام.
لست بحاجة للتذكير بقائمة نظريات المؤامرة والعلاجات البديلة غير المختارة سريرياً، إلا أن الأخطر هو المساس بالجوانب الأمنية وحالة الاستقرار، عبر إشاعة تلك الفوضى من دون رقابة بدعوى الحرية المسيسة أيضاً. لنتذكر مثالاً صارخاً على المعايير المزدوجة في معالجة الأزمة، بين انزعاج الحشود في البرازيل من نظامها السياسي الذي أهمل تفشي «كورونا» مقدماً حالة الذعر من الركود الاقتصادي، والضغوط الهائلة في دول أوروبية ضد سياسات الحجْر والتباعد الاجتماعي والقيود الصحية، التي وإن كانت ضرورية فإن طريقة فرضها وإقناع الناس بها عكس الأزمة الحقيقية، وهي إدارة الأزمات في ظل وسائل الإعلام الجديدة، وتحديات السلطة، والشفافية في طرح المعلومات حتى وإن كانت محبطة؛ لأن البديل هو مزيد من الأوهام الخطرة التي لا يمكن ردمها من دون مبادرات دولية عالمية لردم الفجوة بين المجتمعات العلمية ومراكز الأبحاث والمختبرات، وما تنتجه من معارف وعلوم، وبين الاستفادة منها بشكل مستقل ولو نسبياً، عن أن تطالها يد السياسة وتحولها إلى أدوات للسيطرة الاقتصادية.
إيجاد صيغة مفاهمة عالمية جديدة في إدارة الأزمات الكبرى ربما تبدو مبادرة حالمة، في ظل الحالة السياسية اليوم، وانشغال كل دولة بأولوياتها؛ لكن الأهم هو أن تسعى كل دولة إلى معالجة تحدياتها في المرحلة المقبلة، وعلى رأسها معضلة الاكتفاء الذاتي على كل المستويات الصحية والغذائية والخبراتية، إضافة إلى الاستثمار في نشر الوعي ومعالجة صناع الأوهام والمتاجرين بالأزمات، من خلال الاستثمار في المحتوى البديل الذي يصل إلى جميع الشرائح؛ لأن المعالجة الأمنية والقضائية - على أهميتها - لا تكفي؛ حيث تصنع من الشخصيات المهددة لحالة الاستقرار المجتمعي أبطالاً وضحايا، كما أن هذه ظواهر غير قابلة للزوال، بسبب طبيعة السلوك البشري في التعامل مع الأزمات، في ظل أن قطار العلم مهما كان سريعاً له إطاره الزمني وعقباته الكثيرة، وعلى رأسها ارتباطه بالجدوى الاقتصادية ووفرة الكفاءات.
الحل اليوم في المقام الأول هو في السباق مع حالة اللايقين؛ خصوصاً مع الدول التي تتخذ من المسؤولية والشفافية خيارها الأول في ملفات تمس أمنها واستقرار مواطنيها، هذا السباق يجب ألا يقف في المعالجة السريعة والمرتبطة بالظرف الزمني للأزمة.
ليس من قبيل المديح في شيء أن تجربة السعودية كانت رائدة في التعامل المسؤول مع الأزمة منذ بداياتها، والظهور الأول لخادم الحرمين الشريفين في كلمته التاريخية عن تحديات المرحلة، في بلد بحجم السعودية جغرافياً ودينياً واقتصادياً.
لقد تعلمنا كثيراً من فيروس «كورونا» في المرحلة السابقة؛ لا سيما فيما يخص آليات المعالجة المسؤولة، والتأني في اتخاذ القرارات، والشفافية في طرحها رغم قسوتها ومرارتها، إضافة إلى عدم الدخول في لعبة التسييس بين القوى الكبرى والمنظمات الدولية؛ لكن الدرس الأهم الذي تعلمته السعودية هو فضيلة الاستقرار والأمن والأمان واللحمة الوطنية. ويبقى التحدي لنا ولكل دول العالم، درس الاستدامة وتعميم الوعي في إدارة الأزمات والتحديات الكبرى.