بقلم - يوسف الديني
بحسب ندوة لثلاثة خبراء لهم تاريخ طويل وخبرة واسعة في مجال أبحاث مكافحة الإرهاب من الإدارة الأميركية، عقدت ندوة قبل أسبوع تحت عنوان «إعادة النظر في النهج الأميركي لمكافحة الإرهاب عقب أحداث 11 سبتمبر»، وجاء فيها التأكيد على أهمية السعودية كشريك كبير ومهم وأساسي في المجال بحسب إفادة ماثيو ليفيت مدير برنامج «راينهارد للاستخبارات ومكافحة الإرهاب».
الندوة التي أذيعت بالكامل على منصّة معهد واشنطن لتحليل السياسات حملت مخاوف من مقاربة الرئيس بايدن لملف الإرهاب، وإعادة تقييم للنهج الذي اعتمدته الولايات المتحدة على مدى العشرين سنة الماضية، ورغم تقدير النجاحات التي تحققت في الملف فإنه يجب إعادة قراءة استراتيجية «التبرير» في نهج مكافحة الإرهاب وتحويله من الانتصارات السريعة إلى الاستراتيجية المستدامة، لا سيما مع التنافس الكبير الذي تخوضه واشنطن مع قوى صاعدة كسرت حاجز القطب الواحد من الصين إلى روسيا إلى المشاريع التدميرية من مشروع كوريا الشمالية إلى إيران، والتي شكلت في محصلتها أكبر تهديد دولي يواجه إدارة الرئيس بايدن، لكن السؤال الجوهري مع ذلك، هل يمكن- أو يجب على الولايات المتحدة الانخراط في صراعات هامشية بالنسبة لها في سوريا واليمن؟
أصل الأزمة في نظري يعود إلى الموضعة والتوصيف لمسألة الإرهاب من حيث جغرافيته وسياقه السياسي وليس مدى تأثيره وقدرته على حشد المقاتلين، بمعنى أن التمييز بين التهديد التنافسي من المشاريع المضادة لا يمكن أن يعفي المجتمع الدولي من مصادر الأزمات في مناطق التوتر والصراعات التي وإن وصفها الباحثون بالهامشية إلا أن تأثيراتها هائلة، وأقرب مثال على ذلك وضعية أفغانستان وصداع «طالبان» على مدى عقود، وتجذّر الإرهاب من الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في العراق ولبنان واليمن، والإرهاب السني الذي تقوده «القاعدة» و«داعش» ونظائرهما في شمال أفريقيا ودول القوقاز بما يشبه الاستدامة التي تبحث عنها أميركا في مكافحتهم.
يجب على الولايات المتحدة إذا أرادت الفاعلية في استراتيجيتها، لا سيما مع الأولويات المزاحمة للإدارة الجديدة، الاستماع جيداً لآراء الخبراء في ملف مكافحة الإرهاب، وهو ما كثفه الخبراء في الندوة المشار إليها بضرورة الانتقال من مهمات مكافحة الإرهاب العسكرية إلى ملف استباقي يكمن في إصلاح مصداقيتها المتضررة في الخارج، وإثبات مثابرتها على الوفاء بالتزامات تحالفها على المدى الطويل، والأهم التركيز على بناء القدرات المدنية، وهو الأمر الذي نجده واضحاً في المقاربة السعودية الشريك الأهم والأكثر فاعلية في ملف مكافحة الإرهاب من خلال الاستراتيجية الاستباقية والسعي إلى المعادلة الصفرية مع الإرهاب التي أعلنها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والتي ابتدأها منذ اللحظات الأولى بالقطيعة مع منابع الفكر وتسمية الأشياء بأسمائها، وتحديد مكامن الخطر في شكل تنظيمات وجماعات وأفكار لا يمكن التساهل معها إذا ما أراد العالم المضي قدماً في المستقبل.
تدرك القيادة السعودية أن المعركة مع الإرهاب طويلة الأمد، وتم تأكيد ذلك عبر أزمنة مختلفة، حيث واجهت المملكة خطر التطرف والإرهاب منذ لحظة التأسيس على يد المؤسس الملك عبد العزيز، واليوم نجد الخبراء يؤكدون في قراءتهم النقدية للمقاربة الأميركية ضرورة الابتعاد عن لغة ووعود الانتصار والهزيمة، وأضيف إليها تقزيم المعركة مع الإرهاب بتصفية القيادات والرموز الاعتبارية، فالانتصار النهائي والحاسم على الإرهاب ليس ممكناً بسبب أنه يعبر عن ظاهرة متجددة ببقاء المنابع وانبعاث الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
والحال أن معيارية الانتصار على جيوب إرهابية لهذا التنظيم أو ذاك يجب ألا تجعلنا نتسرع في الاغتباط بإعلان نهاية تنظيمات إرهابية أخبرنا الواقع منذ نشأتها الحديثة أنها قادرة على تجديد نفسها، وأنها وإن قمعت على الأرض؛ ما زالت فاعلة على مستوى أدواتها الإعلامية ومخرجاتها التعبوية على الإنترنت، لا سيما بعد أن انتقلت منذ سنوات طويلة من فكرة البناء الهرمي التنظيمي إلى الانتشار عبر مجموعات صغيرة لتتخلى عن ذلك مجدداً وتنتقل إلى فكرة أكثر تعقيداً، وهو التجنيد الفردي لما بات يعرف بالذئاب المنفردة.
اليوم تشتغل التنظيمات الإرهابية على استراتيجية جديدة، وهي فك الارتباط عن مناطق التوتر والانتعاش في مناطق لا تفكر فيها الجيوب الإرهابية والمجموعات المنخرطة في إعادة التأسيس حتى لو عاشت لحظة كمون في مناطق كثيرة من اليمن إلى القارة الهندية والصومال وشمال أفريقيا ودول أميركا اللاتينية، وبتتبع بسيط لحالات الهجرة على مواقع الإنترنت ومنصاتها للعقل الإرهابي يمكن معرفة حالة الانتقال الجغرافي ومحاولة تحشيد وتجنيد الأجيال الجديدة من خلال بناء ولاءات عابرة للحدود واستغلال الثغرات السياسية في مجتمعات بعينها، وإسناد ذلك كله بماكينة إعلامية ضخمة تنتج التقارير والمجلات والفيديوهات حتى بلغات غير حيّة لتأكيد انتشارها أمام خصومها، وبهدف المزيد من عملية الاستقطاب والتجنيد. بالطبع الحديث هنا عن بقاء وضخ مجموعات وقيادات وكوادر فاعلة للتنظيم، أما الحديث عن الفكرة وبقائها فهو متصل بظروف وسياقات فكرية واجتماعية ما زالت عوامل إنتاجها أكبر بكثير من كل الفعاليات المضادة رغم الجهود الدولية الجماعية والفريدة لمكافحة الظاهرة.
ورغم تركيز الورقة على إعادة التقييم العسكري والاستراتيجي فإن من المهم البناء عليها، خصوصاً في دول المنطقة تتقدمها المملكة العربية السعودية بوزنها السياسي وخبرتها في التعامل مع الملف إلى تحويل تلك التجربة من الواقع إلى الدراسات والأطروحات والنماذج الناجحة التي ركزت على عامل نجاح كبير رغم كل التحديات وهوامش الخطأ، وهو أن المعركة مع الإرهاب اليوم لا يمكن حصرها في الجانب الأمني العسكري، بل هي حرب أفكار واستراتيجيات بالدرجة الأولى. وبحسب الخبير الدولي بريغ باركر المتخصص في علم النفس العنفي عبر دراسات مطولة عن الإرهاب العالمي وطرائق فهمه، فإن معدل تجنيد الكوادر الإرهابية في الأعوام القليلة الماضية ارتفع إلى ما يفوق 30 ألف مقاتل مهووس بالفكرة المسيطرة ينتمون إلى معظم دول العالم تقريباً، وهي بحسب باركر «سلالة عنفية غير متوقعة» تلعب على النفاذ من الثغرات في الخلاف الدولي حول الحرب على الإرهاب وأمن الحدود والتعاون المشترك لا سيما في المجال الاستخباراتي، هذا عدا الملفات السياسية العالقة وصعود الطائفية المضادة والميليشيات التي تلبّست منطق الدولة في مواقع مختلفة بحجة مقارعة التنظيمات الإرهابية، وتلك خطيئة لم يتم الاعتراف بها حتى الآن!