بقلم - يوسف الديني
لا حديث اليوم في مراكز الأبحاث وخزانات التفكير المعنية بالمنطقة إلا عن مشروع إيران النووي، وأن طهران أقرب من أي وقت مضى لتحقيقه، بغض النظر عن تعثر المفاوضات أو التعنت وإطالة أمدها.
سلوك إيران في المنطقة اليوم يعكس مشروعاً آيديولوجياً مضاداً للاستقرار والمستقبل والحياة، والمحصلة المزيد من إعادة إنتاج الميليشيات المسلحة، وبطرق مختلفة، كان آخرها تدشين «الوارثون»، وهو تشكيل متطرف جديد تابع لـ«فيلق القدس» و«الحرس الثوري» لتدوير أعمال «الحرس الثوري» داخل العراق، من خلال استخدام عراقيين موالين، وإخفاء تورط إيران وعلاقتها بتلك الأنشطة والخلايا المزعزعة لاستقرار العراق.
وبحسب ورقة بحثية مشتركة أشرف عليها الخبير مايكل نايتس، المتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران ودول الخليج، فإن مركز مكافحة الإرهاب، ومقره في ويست بوينت، قدم دراسة مبكرة منذ عامين حول نشاط خلايا جديدة، وصفت بأنها «قابلة للإنكار» بأي صلة بطهران، تستهدف المنشآت والمواقع الأميركية في العراق، والتي يشرف عليها واحد ممن كانوا مقربين من قاسم سليماني، يدعى الحاج حميد، وهو من قام بإطلاق عدد كبير من المجندين داخل العراق، وتم تدريبهم في معسكر تابع لـ«الحرس الثوري» في دزفول، جنوب غربي إيران، ولاحقاً تم إظهار شعار هذا التشكيل بشكل علني في 2021، في كلمة متلفزة لأكرم الكعبي، مؤسس حركة «حزب الله النجباء»، وبحسب التقرير عهد إلى «الوارثون» حزمة من العمليات التي تستهدف دول الخليج، أو حسب عبارة التقرير «مؤامرات هجومية عابرة للحدود لها علاقة بكتائب (حزب الله)».
بالنسبة للسلاح النووي فإن المداولات البراغماتية التي تقودها الولايات المتحدة والغرب بهدف تخفيف الضغط على مسألة وملف الطاقة، لا تلغي أيضاً عدداً من الدراسات والتقارير (التي يصدر أغلبها من مراكز أبحاث أميركية) عن اقتراب إيران من امتلاك قنبلة نووية، وهو ما أكده الخبير دينس روس المساعد السابق لأوباما، وكبير الباحثين بمعهد واشنطن للسياسات الذي نشر ورقة قبل أيام، مفادها أن الاتفاق النووي أياً تكن مآلاته أو طريقة الوصول إليه، فهو لن يمنع نظام الملالي من صنع وامتلاك قنبلة نووية، وفيه يؤكد أن إيران اليوم تملك قنبلتين من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المائة، أي ما يقارب المستوى المطلوب للأسلحة النووية.
في مقابل ذلك، لا يزال نشاط إيران فيما يخص التخصيب في أشده، من حيث تركيب وتشغيل أجهزة الطرد المركزي، وبسرعة أكبر بكثير من الجيل الأول من أجهزة الطرد المركزي من نوع «IR-1».
هناك حالة من عدم التفاؤل تسود المجتمع البحثي والعقلاء في العالم، فيما يخص حالة اللامبالاة بمشروع إيران، وسلوكها على مستوى التسليح وتقويض السيادة وتهديد دول المنطقة.
بالنسبة لدول الاعتدال التي تستثمر في المستقبل ومنطق الدولة والاعتدال والرفاهة، وفي مقدمتهم السعودية، فإن هناك إشكالية كبيرة على مستوى التباين والازدواجية بين النهم لمحاولة إعادة طهران إلى الإنتاج وتصدير الطاقة، وبين عدم أخذ سلوكها في المنطقة بشكل جاد؛ خصوصاً أن هناك حالة من الفشل المتكرر للخطاب الثوروي الإيراني في الداخل، من دون أن يسلط عليه الضوء من قبل المنصات الغربية بشكل موازٍ لحالة الترصّد والابتزاز الذي تقوم به في حالات أخرى تخص دول المنطقة.
اليوم الدور بأيدينا نحن في الخليج، عبر تعرية هذه الازدواجية وكشفها ونقاشها، وأيضاً من خلال تعرية «الثوروية الإيرانية» ومشروع طهران عبر تفكيك دلالاته السياسية، وربطها بالسلوك العسكري المتمثل بالاستثمار في أذرعها بالمنطقة، برافعات طائفية لا يخلو خطاب سياسي واحد في أي من المحافل الإيرانية منه؛ حيث الشعارات التي يطلقها الساسة ذات الطابع الديني ليست إلا أدوات للتعبئة، ولا تعبر عن أهداف نهائية غائية؛ خصوصاً ما يتصل منها بسيادة الدول وأمنها الذي يقوض أبسط مفاهيم السياسة الدولية، فهناك من يقول إن تدخله في سيادة الدول وبناء أذرع وميليشيات عسكرية له، يعني أنه إعلان لعدم إيمانه بمفهوم الدولة والأمن الإقليمي والمؤسسات الدولية.
حالة الارتباك الأميركي والتردد الأوروبي حيال الاتفاق النووي والعقوبات، تجعل النظام الإيراني يقدم رسائل استباقية، تتمثل في مزيد من حالة التبني لميليشيات جديدة وإعادة تنشيط من التنظيمات المسلحة التابعة لـ«الحرس الثوري»، أو حتى إيواء قيادات تنظيم «القاعدة» التي تحاول الانبعاث في مناطق جديدة، ومنها اليمن على سبيل المثال.
هدف طهران من هذه الرسائل الاستباقية يتمثل في إظهار القوة، في محاولة للعب استراتيجية «الحدود القصوى» التي تضمن إلقاء كل الأوراق، واكتساب أكبر قدر من الأرباح، إضافة إلى الظهور بمظهر القوي لأذرعها وحلفائها وأنصارها في الخارج. ولا تزال الشعارات البراقة الحماسية ضمن استراتيجية خطاب المقاومة وإخراج القوات الأميركية من المنطقة هي السائدة، حتى في أكثر لحظات التفاوض تفاؤلاً.
لا شيء يدعو للتفاؤل، فـ«الحرس الثوري» لا يزال هو العصب الأساسي للمشروع الإيراني التوسعي والتقويضي، ويوماً بعد يوم تزداد حالة تجذره في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية في إيران، ويشكل مسألة هوية مشروع تصدير ورعاية الثورة، وبناء الأذرع المتطرفة عبر الميليشيات، وحالة الدولة داخل الدولة، وهو ما يجعلنا نترقب مزيداً من مخاطر التهديد الأمني للمنطقة.