بقلم - يوسف الديني
شاع في عالم الاستثمار والأعمال والتسويق اقتناص مفهوم ورمزية وثقل اسم مكة المكرمة، شرفها الله، (Mecca) كقبلة خارج السياق الديني بالمعنى المجازي. ما يشهده السعوديون اليوم في مملكة الاستباقية التي دشنتها «رؤية 2030» وعرابها ولي العهد السعودي وصولاً إلى قمة العشرين (G20)، هو استعادة السياقات المجازية إلى الحقيقة المتمثلة في طموح السعودية الجديدة أن تكون قبلة العالم الدينية والاقتصادية والاستثمارية، وفي تقديم نموذج لدولة اعتدال مستقبلية وعصرية تساهم في تحديات الاقتصاد والصحة والبيئة في عالم ما بعد جائحة «كورونا».
توقيت القمة في هذه الظروف الحساسة والصعبة التي يعيشها العالم، وآلية انعقادها افتراضياً بما يحمله من دلالات على طبيعة العالم الرقمي الموازي وتحدياته المستقبلية، يدعو للفخر والاعتزاز، خصوصاً أن السعودية الاستباقية في حربها على الإرهاب والمعادلة الصفرية التي تحدث عنها ولي العهد في تصريحاته التاريخية الأخيرة الممهدة للقمة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأدوار السعودية الجديدة، تنضاف إلى ريادتها الدينية وثقلها الإسلامي، ومنها لعب دور محوري في استقرار الاقتصاد العالمي، والتنمية المستدامة، وتعزيز رؤوس الأموال البشرية، وتدفق المشروعات التجارية والاستثمارات الضخمة ليس للمملكة فحسب بل للمنطقة، خصوصاً على مستوى دول الاعتدال التي تشارك السعودية رؤيتها في أولوية منطق الدولة على كل الأجندات والمشاريع، التي سعى على مدى سنوات حلف الأزمات في استهدافها عبثاً، وكانت لحظة الانكشاف السياسي والأمني كبيرة جداً للعالم بأسره، خصوصاً مع المشاريع التوسعية والتقويضية لملالي طهران والمتشبهين بهم في المنطقة.
قمة العشرين التي تجمع قادة العالم من 19 دولة في قبلة الاعتدال والمستقبل، التي تسعى بشكل دؤوب لخلق هذا النموذج الإقليمي المتفرّد في الاستثمار في الإنسان، وبات ذلك واضحاً في الشفافية المطلقة التي تحدث بها ولي العهد في تصريحاته التي أعادت تموضع مملكة الاستباقية على خريطة الدول المتقدمة في التعامل مع الملفات والأزمات؛ من الإرهاب إلى جائحة «كورونا» مروراً بتحديات البطالة وسوق العمل، وهو الأمر الذي انعكس على الأرض مع الاعتراف بالعوائق والصعوبات الشاقة، إلا أن وعد الأمير محمد بن سلمان يعيش السعوديون آثاره منذ تدشين لحظة الرؤية، الذي يتجاوز مسألة الاقتصاد على أهميته إلى انعكاساته على الجانب الإنساني والثقافي والتنموي، تحديداً في مجتمع سعودي منفتح ومتسامح يجمع بين التطلع للمستقبل والتمسك بتراثه وقيمه التي ظلت مختطفة لفترات زمنية سابقة من قِبل الآيديولوجيات التي استطاعت السعودية إحداث قطيعة مفاهيمية وسياسية وقانونية معها، رغم تأرجح العديد من دول المنطقة وبعض الدول العالمية من اتخاذ ذلك القرار الشجاع الذي تم تعزيزه في الداخل بإصلاحات اجتماعية واقتصادية كبرى، وأهمها مكافحة الفساد قرين التطرف ورفع مستوى الشفافية والمساءلة.
قمة دول العشرين في هذا التوقيت الصعب الذي يمرّ به العالم جزء من إعادة تشكّل خريطة الأوزان السياسية والاقتصادية بما تمثله الدول المشاركة من ثقل كبير؛ 80 في المائة من الناتج الاقتصادي العالمي، وثلثا سكان الكرة الأرضية، وثلاثة أرباع التجارة العالمية.. كلهم يجتمعون لأول مرة في دولة عربية وقبلة المسلمين الأولى وفي توقيت عالم ما بعد «كورونا» وما بعد الانتخابات الأميركية، وما تحمله الدلالتان من تحديات الركود الاقتصادي التي لم يعشها العالم منذ عقود، وبقدر ما تشكّله هذه التحديات من استحقاقات صعبة إلا أنها أيضاً تعكس ما يمكن أن توفره من فرص هائلة لمملكة الاستباقية التي نجحت أكثر من مرة في سباق الحواجز الذي تفرضه تعقيدات واقع اليوم، وهي قادرة بتصميم قيادتها السياسية، على رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي يقود السعودية إلى إنجازات غير مسبوقة في تاريخها المعاصر، حسب وصف مجلس الوزراء؛ الوصف الذي لم يأتِ اعتباطياً، حيث لغة الأرقام لا تكذب، فعلى سبيل المثال ضاعف صندوق الاستثمارات العامة نموه من 560 مليار ريال إلى ما يزيد على 1.3 تريليون ريال، وتم إعادة هيكلة أغلب القطاعات في السعودية بهدف تعزيز إيرادات الدولة غير النفطية، والحد من آثار جائحة «كورونا» التي قدمت المملكة نموذجاً متقدماً على مستوى تعميم الوعي من خلال تسخير كل مؤسسات الدولة وتكاتفها للحد من انتشار الوباء والسيطرة عليه، والموازنة بين المصلحة العليا وإعلاء قيمة سلامة الإنسان ودعم الأسواق، خصوصاً المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والحد من تأثر الاقتصاد.
قدر «مملكة الاستباقية» هو المضي قدماً بخطوات وثّابة في سباق الاستقرار ودولة الرفاه، وحصد المزيد من النجاحات الحقيقية على مستوى التأثير في اقتصادات الدول الكبرى والأسواق العالمية من خلال اقتناص كل الفرص لبناء شراكات استراتيجية تصّب في صالح الاقتصاد الوطني الذي تشير كل الأرقام الدولية إلى تعافيه بشكل متسارع، ولا يمكن فهم تلك الحفاوة الكبيرة باستضافة السعودية للقمة، وانعكاس ذلك على الامتنان الذي يجده مهندس الرؤية الجديدة للسعودية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في أوساط حلفائه الحقيقيين الأجيال الشابّة التي تشكّل النسبة الأكبر من الحاضر السعودي وكل مستقبله، إلا أنها تتويج لجهد طويل منذ أن أخذ على عاتقه شجاعة اتخاذ القرار الجريء بتبديل جلد الاقتصاد السعودي المعتمد بشكل إدماني على النفط، والأهم القطيعة الكبرى مع التطرف وأجندات أعداء المستقبل والحياة... هنا رغم التحديات قِبْلة للعالم اليوم حقيقة ومجازاً وعلى كل الأصعدة!