بقلم - علي شندب
بعد استعادة الجزائر العام الماضي جماجم بعض مجاهديها الذين قتلوا أثناء حقبة الاستعمار الفرنسي، حيث أنشأت فرنسا لأجلهم "متحف الإنسان" الذي بات يعرف بـ "متحف الجماجم"، وصف الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبّون نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون بـ "النزيه والنظيف" عندما كان يتحدث عن الماضي الاستعماري لبلاده. ورأى تبّون يومها، أنه من خلال خطوة البدء بإعادة الجماجم تكون فرنسا قد قدمت نصف اعتذاراتها، مطالبا ماكرون أن يستمر في نفس النهج لتقديم فرنسا لكامل اعتذاراتها.
وكردّ على تنزيهه من قبل تبّون، حاول ماكرون بالأمس دق إسفين بين الرئيس الجزائري والجيش الجزائري، بقوله "إن الجزائر كان يحكمها نظام سياسي عسكري له تاريخ رسمي لا يقوم على الحقيقة بل على كراهية فرنسا". وفي تماه مع خطاب اليمين المتطرف غمز ماكرون من قناة حقبة العهد العثماني بين عامي 1514 و1830م، بهدف النيل من العلاقات الإيجابية حالياً بين تركيا والجزائر، متسائلاً "هل كانت توجد أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟". وقد مهّد ماكرون لخطابه بقيام فرنسا بخفض التأشيرات لمواطني تونس والمغرب والجزائر، ما دفع بالرئاسة الجزائرية لاستدعاء سفيرها من باريس، واعتبار تصريحات ماكرون تحمل إساءة بليغة لخمسة ملايين شهيد جزائري، وتدخلاً مرفوضاً في الشؤون الداخلية الجزائرية، ثم أتبعت بيانها الساخط بإغلاق أجواء الجزائر أمام الطيران الحربي الفرنسي.
كل هذا يأتي تزامناً مع إعلان الولايات المتحدة الأميركية الانسحاب من المنطقة بهدف التفرغ لمواجهة المارد الصيني. وعندما كانت الاستراتيجية الأميركية منخرطة في المنطقة من العراق وسوريا الى الخليج وشمال افريقيا، كان دور فرنسا ومثيلاتها الأوروبيات "غسيل الصحون في المطبخ"، لأن طهي دول وشعوب المنطقة كان حكراً على الاستراتيجية الأميركية بدءاً من احتلال أفغانستان والعراق وغزوهما، وصولاً الى العدوان على ليبيا وتدمير الدولة فيها وتفسيخها والنيل من تركيبتها الديموغرافية، فضلاً عن مواردها الطاقوية المعلومة والمجهولة، بالإضافة الى موقعها الجيواستراتيجي افريقياً والمتداخل عبر البحر المتوسط مع اوروبا وآسيا.
إنها الاستراتيجية التي جنّدت الولايات المتحدة لأجل تحقيق أهدافها حلف الناتو بشقيه الأطلسي والعربي، حيث تولّت الإدارة الأوبامية القيادة من الخلف، ليتولى القيادة الأمامية رئيس فرنسا السابق نيكولا ساركوزي المحكوم مؤخراً بجريمة تلقيه تمويلاً ليبيا مكّنه (بحسب ما صرّح لي به العقيد القذّافي) من الجلوس على كرسي الإليزيه. فيما تولّى القيادة عن الجانب العربي الخليجي قطر التي برز دورها في تأمين مستلزمات ولوجستييات المقطورات الإخوانية في سياق ثورات الربيع المسمومة لتقفز بهم في اللحظة المناسبة الى كراسي السلطة المتناسلة من كرزايات أفغانستان والعراق.
وكما تهاوى حكم الكرزايات الأفغاني، ها هي مقطورات الإخوان وقاطراتهم تتهاوى في غالبية البلاد التي صعدت فيها الى كراسي السلطة، من تونس، الى السودان وقبلهما مصر وآخرهم السقوط المدوي ديمقراطياً في انتخابات المغرب. وبيّنت الوقائع فشل الإخوان في إدارة مطلق دولة ركبوا موجة الثورة فيها ثم مُكنوا من السيطرة عليها، ولم ينجحوا سوى في تقويضها وتحويلها الى دول ما بعد فاشلة.
وفيما شكّلت التجربة التونسية ملهماً للشعوب العربية، فإنّ حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي انهمكوا في بناء الهياكل الرديفة لمؤسّسات الدولة والتغول فيها وعليها، تماماً كالحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان، ولعلّ ما عرف بالجهاز السري للنهضة والغنوشي أسطع دليل على تغوّل إخوان تونس وغنوشييها على أجهزة ومؤسّسات الدولة التونسية، ما دفع الرئيس التونسي قيس سعيد الى اتخاذ تدابير استثنائية علّقت البرلمان ورفعت الحصانات، وتوّجت مؤخراً بتكليف الدكتورة نجلاء ودن برئاسة الحكومة لتكون أول امرأة عربية تتبوأ هذا المنصب المتقدم، ما يشكل تجحيظاً قوياً وتحدياً كبيراً لقدرة المرأة التونسية على القيادة، سيّما وأنها تمتاز بخصوصية الأمومة التي تجعلها بموقع الأم لجميع المواطنين الذين ملّوا وكفروا بأنظمة الحكم الأبوية.
وبعيداً من الاسترسال في فشل تجارب الإخوان ومشتقاتهم المحمولين على أجنحة البوارج والأساطيل الأطلسية وأثير الفضائيات المعلومة والمكلومة جرّاء انهيار استثماراتها الفاشلة في مشروع الأخونة، نعود الى الاستراتيجية الأميركية الجديدة. إنها الاستراتيجية التي تقول بالانسحاب من المنطقة بهدف التفرّغ لإنشاء أحلاف دولية لمواجهة الصين عبر المحيطات، اقتضت اشتراطاتها شطب فرنسا من صفقة الغوّاصات الأسترالية لصالح الولايات المتحدة، وقد خلّف إلغاء هذه الصفقة جراحاً غائرة وندوباً عميقة في نفسيّة "المجتمع والمجمّع الصناعي العسكري الفرنسي" الذين وإضافة لخسارتهم صفقة العمر، تلقوا إهانة بليغة من الحكومة الأسترالية التي اعتبرت أن التكنولوجيا الفرنسية لا ترتقي الى مستوى أهمية ومواصفات وكفاءات الغوّاصات المطلوبة.
وكم كان إيمانويل ماكرون مهشماً وهو يعبّر عن ألم طعنة لخاصرة التي تلقاها من الترويكا الأميركية الأسترالية البريطانية، أحد أضلاع المواجهة مع الصين. وبمرارة لافتة سبق لماكرون أن عبّر عن آلام طعنة أخرى أسماها بـ "الخيانة الجماعية" التي تعرض لها من المسؤولين في بيروت، الذين تراجعوا عن تعهداتهم بتنفيذ المبادرة الفرنسية، التي باتت "ماكريسية" بعد تلقيحها من قبل الرئيسي الإيراني ابراهيم رئيسي.
واذا كان منطقي أن تتلقى فرنسا الدولة الكبرى طعنة من الدولة العظمى، فمثير للسخرية أن تتلقى الطعنة من دولة منكوبة صغرى في العالم. جلّ ما في الأمر أن ماكرون يتوق لاستدعاء أدوار فرنسا الاستعمارية المتضخّمة. ويبدو أن ماكينات التفكير الاستراتيجي الفرنسي، لم تتمكّن بعد من تفكيك ودحض مقولة وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد حول "أوروبا العجوز"، بدليل أزمة التأشيرات التي افتعلها ماكرون (لاستقطاب اليمين الفرنسي انتخابياً) مع المغرب وتونس والجزائر التي ردّت على الإهانة المزدوجة باستدعاء سفيرها من باريس وبرفض خطاب الحنين الاستعماري لماكرون.
لكن، في أوجّ لحظة الانسحاب الأميركي من المنطقة، ضربت واشنطن يدها على الطاولة مجدداً، وقالت ببساطة متناهية: في ليبيا.. الأمر لي. ثم أكملت ضربتها بتشغيل محركاتها الاستراتيجية على محورين:
الأول، تشريع مدجّج بالعقوبات من الكونجرس باسم "قانون الاستقرار في ليبيا"، ضد كل من يعيق تحقيق الاستقرار ويعبث بالأمن، والذي ينصّ بوضوح على إخراج الميليشيات والمرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا. وفي هذا البند إشارة بليغة لتركيا التي بدأت تجميع مرتزقتها الذين سبق وشحنتهم الى ليبيا. وبدرجة ثانية الى روسيا بموضوع مجموعة "فاغنر" التي يبدو أنها زاحمت النفوذ الفرنسي في غالبية شمال افريقيا وقوّضته في بعض بلدان الساحل والصحراء ومنها ليبيا وافريقيا الوسطى ومالي، فضلا عن تشاد حيث لم تتمكن رادارات فرنسا الذكية من إسقاط المُسيّرة التي اغتالت رجلها القوي رئيس تشاد السابق ادريس ديبي الذي نفذته جماعات تشادية دربتها وسلحتها فاغنر الروسية، ما أوحى وكأنّ بوتين يثأر لمقتل حليف روسيا الأول في شمال إفريقيا معمر القذافي.
الثانية، عقد اجتماع بين اللجنة العسكرية 5+5 بحضور قائد الأفريكوم ورئيس الحكومة الليبية، والمبعوث الأميركي الخاص إلى ليبيا. وقد وصفت السفارة الأميركية الاجتماع بالتاريخي فقط لأنه عقد في العاصمة طرابلس وليس بمقر اللجنة في مدينة سرت بوسط ليبيا. دلالة الاجتماع البارزة (الذي عقد بحماية أميركية خاصة، وليس ليبية رسمية أو ميليشياوية) أنه عقد في "قاعدة امعيتيقة" التي كان اسمها قبل طرد ثورة الفاتح للقوات الأميركية والأجنبية بداية سبعينات القرن الماضي، قاعدة "ويلس" المزخرة بقنابل نووية، والتي انطلق منها أسراب الطيران الأميركي أثناء العدوان الثلاثي على مصر.
وبهذا يتبيّن أن تعبئة الفراغ الذي يحاوله ماكرون في العراق ولبنان وأنى تسنى له ذلك، يكون بضوء أخضر أميركي، لكن هذا الضوء الأخضر ليس تفويضاً أميركياً مفتوحاً لفرنسا كي تملأ الفراغ، سيما وأن هناك ثمة محاصصة وتنافس بين القوى الإقليمية والدولية الوازنة على تعبئة فراغ الانسحاب وتقاسم مناطق النفوذ، ما يعني أن لايران وتركيا مناطق نفوذهما الواضحة والتي يتم ترسيمها بالاتفاق مع روسيا وليس فرنسا. وفي هذا السياق ينبغي النظر الى صهاريج حزب الله الإيرانية، والأهم الى استدارة الرئيس التركي اردوغان باتجاه روسيا، بعدما أشاح الرئيس الأميركي بايدن بنظره عنه في اجتماعات نيويورك.
إنها الاستدارة التي أعقبها سورياً بدء الانسحاب التركي من بعض المواقع في إدلب، كما أعقبها لبنانياً دعوة أردوغان لرئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي لزيارة أنقرة والنظر في جميع احتياجات لبنان، ما يشي بأنّ المساعدات الأردوغانية ستكون بعيدة عن دفتر الشروط الماكرونية ومن خلفه الاتحاد الأوروبي. وفي هذا مزاحمة أردوغانية واضحة لماكرون الذي يبدو أمام تحدي فتح أبواب السعودية والخليج أمام حكومة "المبادرة الماكريسية" في لبنان.