إنها الجغرافيا سلطة وسلطانا، تلك التي تحكم لبنان وسوريا. فرغم اهتزازات البورصات السياسية صعوداً وهبوطاً بين البلدين، فإن الجغرافيا في حالة لبنان هي التي تبسط نفوذها وسلطتها وسيطرتها.
صحيح أن حدود لبنان مثلثة الأضلاع. فهي أولاً مقفلة مع فلسطين منذ نكبة احتلالها. الضلع الثاني هو ذاك البحر، الذي كان جسر لبنان مع العرب والغرب تجارة وسياحة، وأصبح مسرحاً لقوارب الموت التي تقلّ المهاجرين غير الشرعيين بحثاً عن فرصة حياة فيما وراء البحار، تماما كما بات معبراً لاستجلاب الموت عبر النيترانيوم ومشتقاته، وتصدير المخدرات والرمان المحشو بالكابتغون. الضلع الثالث هو سوريا التي تبقى جغرافياً الشقيقة الأقرب من حبل الوريد رغم ما صنع الحدّاد بينها وبين لبنان. ما يعني عمليا أن سوريا هي شريان حياة لبنان. وهذا بخلاف حالة سوريا الجغرافية المفتوحة على عدة بلدان أقفلت أبوابها بسبب الحرب في سوريا وعليها.
هاهي معادلة الجغرافيا تفرض نفسها مجددا على لبنان في تموضعه غير المسبوق على فوّهة البركان. والحلول غير الترقيعية لا بد لها وفق قانون الجغرافيا وتضاريسها الأخوية من المرور في سوريا وعبرها.
فمعالجة الظلمة التي تلف لبنان جرّاء أزمة الكهرباء التي تسببت بها منظومة النيترانيوم ومحاصصات الفساد والصفقات، طريقها الحصري والوحيد في سوريا وعبرها.
إنه قانون الجغرافيا، الذي وبغض النظر عن دمجه بقوانين التاريخ والعروبة والعلاقات الاجتماعية المختلف عليها في لبنان بين اللبنانيين، مفترض من حيث الحكمة والحصافة أن يسمو على ما عداه من القوانين الأخرى، وألّا يتأثر بالبورصات والمواقف السياسية المستولدة من أجندات محاور متخادمة او مختلفة.
مناسبة الكلام عن قانون الجغرافيا هو الزيارة غير المسبوقة منذ سنوات لوفد وزاري لبناني مكوّن من نائبة رئيس الحكومة ووزيري المال والطاقة والمدير العام للأمن العام إلى دمشق، لبحث أمور تقنية متعلقة باستجرار الغاز المصري، والكهرباء الأردنية عبر الأراضي السورية.
إنها الجغرافيا التي رفعت عن كاهل الدولة اللبنانية عبء تعرضها لعقوبات أميركية ربطا باستجرار زعيم حزب الله سفن الوقود من إيران المعاقبة أميركياً، وهو الاستجرار الذي إذا ما حصل على النحو الذي قررته إيران وفقا لتمدّد نفوذها إلى الحياة الاقتصادية، ما سيعني حكماً وحتماً ابتلاع إيران لكل لبنان بكله وكلكله.
بعض اللبنانيين وجدوا أنفسهم بين خيارين أحلاهما أمرّ من الآخر. لكن التعمق في عمق استجرار الغاز المصري والطاقة من الأردن عبر سوريا، جعل الأمر أكثر مقبولية من الناحية النفسية، ما يعني إبقاء لبنان ضمن المدارات العربية وعدم انتقاله إلى الرادار الإيراني. وفي سياق المفاضلات بين سفن النفط الإيرانية المعاقبة أميركيا، وبين الاستجرار الطاقوي العربي بعيدا عن تداعيات قانون قيصر، فطبيعي أن تكون المفاضلة لصالح الاستجرار العربي.
رغم هذا، فإن وقع زيارة الوفد الرسمي اللبناني إلى العاصمة السورية دمشق نزل كالصاعقة على رؤوس البعض خصوصا ممن يصنفون أنفسهم سياديين في لبنان، لكن هذا البعض لم ينبث ببنت شفة، فقط لأن الولايات المتحدة الاميركية تقف خلف هذا المشروع الهادف إلى إضاءة لبنان من جهة وقطع الطريق على سفن حزب الله الإيرانية من جهة ثانية.
لكن غياب العلم اللبناني عن جلسة المباحثات الرسمية بين الجانبين اللبناني السوري بدت كهدية هبطت من السماء على بعض السياديين الذين امتلأت أفواههم بالمياه، فأطلقوا سهامهم وصوبوها على هذه الزيارة "الانبطاحية" انطلاقا من غياب العلم اللبناني، الأمر الذي يجنبهم لوم الأميركيين وسيّدة عوكر.
بدون شك زيارة الوفد اللبناني إلى دمشق تمت وفق معايير "إتفاقية الأخوة والتعاون والتنسيق" بين البلدين، التي يظلّل مسيرتها "المجلس الأعلى اللبناني السوري". ذلك الهيكل الرسمي الذي كان حله إلغاء الاتفاقية الشهيرة، مطلباً محموماً لبعض السياديين ورموز 14 آذار قبل أن تعصف بينهم الخلافات ويتشتت شملهم.
وكم كان سعد الحريري، محل سخرية وتهكم، ومفاجئاً لكثيرين خلال مقابلة "طق الحنك" التلفزيونية بعيد اكعتذاره عن تشكيل الحكومة، عندما أعلن "أن مباحثاته مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تركزت على مسألة استجرار الغاز المصري عبر سوريا إلى لبنان، وأن الملك الأردني عبدالله بن الحسين نجح في إقناع الرئيس الأميركي جو بايدن بهذه الخطوة".
لكن الصدمة النفسية والسياسية التي أحدثها كلام ابن رفيق الحريري، عزّزتها سيّدة عوكر دوروثي شيا عندما أعلنت عقب مهاتفتها الرئيس ميشال عون لإبلاغه أن بلادها تجري اتصالات مكثفة مع مصر والأردن بهدف استجرار الغاز والكهرباء، وأنها تراجع الإجراءات مع وزارة الخزانة الأميركية المعنية بملف العقوبات على سوريا وخصوصاً قانون قيصر الذي يجرّم كل من يتعامل مع الدولة السورية ومؤسّساتها المختلفة.
وتوازياً مع رغبة مصر والأردن بمدّ يد المساعدة الفعّالة إلى لبنان، بعدما أعطت واشنطن الإشارة الخضراء إلى حكومة تصريف الأعمال اللبنانية كي تيمّم وجهها شطر دمشق بهدف تعبيد الطريق النفسي قبل الدبلوماسي. وقد أبلغت سوريا بلسان وزير خارجيتها ناصر المقداد موافقة بلاده على تمرير أنابيب الطاقة والغاز عبر أراضيها إلى معمل دير عمار في شمالي لبنان، وهو الأمر الذي أكده أيضاً الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني السوري نصري خوري.
عملية استجرار الغاز والطاقة ستكون بحسب وزير الطاقة اللبناني ريمون غجر، محل متابعة خلال اجتماع رباعي يضم لبنان، سوريا، مصر والأردن الأسبوع المقبل في عمان، وذلك بهدف تفعيل الاتفاقيات المعنية ومذكرة التفاهم الخاصة بإنشاء "الخط العربي" عام 2000 بالإضافة إلى بحث الأمور الفنية والتقنية المتعلّقة بتمديدات الطاقة وأنابيب الغاز التي تعطّلت جرّاء الحرب والتي سبق لمعمل دير عمار الكهربائي بوصفه الوحيد في لبنان المؤهل للعمل بالغاز أن دارت محركاته لمدة ستة أشهر قبل أن يوقفها نقص التمويل.
ربما يكون استجرار الطاقة والغاز محل تشاور وبحث أميركي عربي سابق. لكن الإعلان عنه من قبل السفيرة الأميركية في بيروت بدا في شكله الأولي بمثابة ردة فعل إنفعالية على خطوة حسن نصرالله باستجرار سفن المازوت والبنزين من إيران، وهي الخطوة التي تسبّبت بإحراج شديد للإدارة الاميركية، حيث تمكن خلالها المتأيرنون من تسجيل نقطة على المتأمركين في لبنان. وثمة مناخ في لبنان يقول بأنه لولا إعلان نصرالله وتهديده ووعيده واعتباره سفينة المازوت الإيرانية أرضاً لبنانية، لما فكّر أحد بأسلاك الأردن ولا بأنابيب مصر، فضلاً عن أي شكل من التواصل السياسي الرسمي المحظور مع القيادة والدولة السورية.
كل هذه الأمور تجري في لحظة يتموضع فيها لبنان على قمة البركان، وتنتشر في سياق الفوضى المجتمعية التي تلفه أمام طوابير الذل والبنزين والمازوت والخبز والدواء، عمليات قتل ممنهجة بدأت تأخذ طابع التصفيات الغامضة خصوصا في طرابلس التي يتسيّد فوضى رمي القنابل وإطلاق الرصاص فيها بعض المطلوبين قضائيا والذين عاد بعضهم إلى الظهور في ظل ارتخاء قبضة الجيش والقوى الأمنية المنهكين جراء مواجهة وجع أهلهم وصرخات الجوع والفقر الناتج عن الإفقار الممنهج الذي أنتجته منظومة النيترانيوم والفساد والاحتكار والتهريب المكونة من كل أهل السلطة.
بدون شك خبر استجرار الغاز والطاقة من مصر طغى على خبر بنزين نصرالله ومازوته، سيما وأن سفن نصرالله وكما بيّنت التصريحات الأميركية سوف تعرّض الدولة اللبنانية لعقوبات لا قبل لها بها، كما إن نجيب ميقاتي المكلّف تشكيل الحكومة وبحسب مصدر مقرب منه، أبلغ محاوريه من قيادة حزب الله عدم قدرته على تحمل تبعات النفط الإيراني المهرّب إلى لبنان، ويرجح أن موقف ميقاتي هو ما جعل حزب الله يحسم أمر وجهة سفينته باتجاه مرفأ بانياس السوري، وليس مرافىء لبنان.
توازياً، فالأمر غير المحسوم هو ارتطام تشكيل الحكومة بجدار الشروط العونية الصلبة منذ تكليف مصطفى أديب واعتذاره، مروراً بتكليف سعد الحريري واعتذاره وصولا إلى تكليف الميقاتي الذي رمى اليوم قنبلة صوتية متمثلة بفكرة تشكيل حكومة أقطاب من 14 وزيرا، وهو المقترح الذي لا يعبر سوى عن العقدة الكأداء التي تمنع تشكيل الحكومة ما لم تنتج تسوية سياسية كبيرة موضوعها تعبيد طريق جبران باسيل الى قصر بعبدا.
هذه التطورات المتسارعة لبنانيا، تشكل انعكاساً للتطورات الاستراتيجية في العالم والمنطقة مع سيطرة حركة طالبان على أفغانستان وجلوسها على كرسي كابل ربطا بهزيمة مقنعة منيت بها الولايات المتحدة وعبر عنها تخبطها في انسحاب أُجمع على وصفه بالمهين والمذل، توازياً مع قمة بغداد التي تغوّل بروتوكولياً فيها وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان، والتي بدا فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وكأنه يحاول تعبئة الفراغ الأميركي، بالإضافة لما تردّد عن استضافة بغداد لمحادثات سرية بين سوريا وتركيا، على غرار المحادثات التي تستضيفها بين السعودية وإيران، وصولا إلى القمة المصرية الأردنية الفلسطينية في القاهرة والتي لم يغب لبنان عن مباحثاتها.
هذه المشهدية أفصحت وأوضحت أن لبنان يتموضع في قلب صراع تدوير زوايا النفوذ الأميركي - الإيراني - العربي، وأن ثمة سباق محموم بين أطراف الصراع لاستجماع الأوراق الممكنة بهدف حرقها أو تخصيبها في مفاوضات فيينا النووية التي وفق نتائجها ستتشكل توازنات القوة والنفوذ في المنطقة التي دخل إليها لاعب جديد إسمه طالبان.