أثارت زيارة خالد مشعل رئيس حركة حماس في الخارج إلى لبنان ولم تزل تثير حتى بعد انقضائها الكثير من السجالات المكبوت منها والمكنون أكثر من المعلن والمنشور. بيت قصيد السجالات أنها لم تعد من أسرار الغرف المغلقة التي يفاخر حزب الله أنه أرساها خصوصا في العلاقات بين الحلفاء، لا سيما الحاملين لمشعل المقاومة. لم يعد سرّاً أن حزب الله حاول إجهاض الزيارة ومنعها، وعندما أجهضت مساعيه المكثفة حاول الالتفاف عليها وتجويفها عبر سدّ أبوابه السياسية والإعلامية والرسمية بوجهها.
لم يعد سرّاً أن خالد مشعل يعلم بفيتو حزب الله عليه وليس فقط على زيارته بيروت، ومع ذلك واجه الفيتو الحزبلاهي بالإصرار على القيام بزيارته الرعوية إلى المخيمات الفلسطينية التي تدخل ضمن صلاحياته التنظيمية والسياسية والحركية. فيتو حزب الله الصارخ ضد مشعل، رفضه الأخير ربما بهدف تجحيظ التباينات العميقة مع الحزب ومن خلفه إيران.
ليس سهلاً أن تعمد قيادة حزب الله إلى تهميش قيادة حركة حماس، ما يدفعنا إلى طرح السؤال حول صراع الكاريزميات خصوصا حول ملف المقاومة ضد إسرائيل. إنه الملف الذي حاول زعيم حزب الله ولم يزل، الإمساك المتفرد برايته وناصيته كقائد ليس لمقاومة حزب الله، وإنما لكل حركات المقاومة، وعندما تضيق عباءة الموقع على نصرالله يحاول إلباسها إلى مرشده الأعلى علي خامنئي، فمن ينسى تشبيه نصرالله لخامنئي بـ "حسين العصر"؟
بات جلياً من خلال سلوك حزب الله مع خالد مشعل والحرم الذي فرضه الحزب على كثير من القوى السياسية لعدم لقاء مشعل، كسره بمهارة سياسية متوازنة وليد جنبلاط. فالحزب يسعى لشطب كاريزما مشعل من أمام نصرالله بوصفها المعيق لكاريزما تسيّده على حركات المقاومة وخصوصاً في فلسطين. وبالكلام عن صراع الكاريزميات علينا ألا نغفل كيف ومن شطب رفيق الحريري وصدام حسين، وعلي عبدالله صالح وطبعا معمّر القذّافي!
وبالكلام عن القذّافي تفيد الإشارة إلى أن حسن نصرالله وخالد مشعل قد تخندقا تحت راية الناتو ضد معمّر القذّافي عام 2011. ويومها اتهمت الخارجية الليبية حزب الله بالمشاركة الصريحة بالقتال إلى جانب ثوار الناتو ومجاهديه. وقع الاتهام كان قاسياً على حزب الله الذي سارعت وحدته الإعلامية إلى إصدار بيان ينفي المزاعم القذّافية. موقف الحزب لم يتوقف عند البيان. بل أوفد شخصية أكاديمية من خارج طاقمه السياسي إلى القيادة الليبية. ويومها جهدت تلك الشخصية (الموفدة من قيادة حزب الله بشخص الحاج حسين الخليل) في محاولة إقناع الجانب الليبي بأن المقاتلين الذين يشاركون مع ثوار مصراتة هم من حركة حماس وليسوا من الحزب. ولإثبات ذلك قدم موفد حزب الله إلى محاوريه في المخابرات الليبية أشرطة مدمجة تثبت تورط حماس عسكرياً في القتال إلى جانب مجاهدي الناتو! ويومها تظاهر الليبيون بقبول حجج موفد حزب الله، واعتبروها وخرجاً وبداية التراجع عن الانخراط تحت راية الناتو. لكن مرحلة ما بعد سقوط نظام القذّافي أثبتت أن الحزب كان ضالعاً في القتال ضد القذافي تحت تغطية الأباتشي والبوارج الأطلسية.
إنه الانخراط الذي فعلته حماس بلسان خالد مشعل وإسماعيل هنية وموسى أبو مرزوق الذي صدم من رفض أحد رموز القذافي (المعنيين بحركات التحرر الفلسطينية خاصة) مصافحته خلال مراسم عزاء في القاهرة العام الماضي، ومبلغ الصدمة التي تلقاها أبومرزوق أن صديقه الليبي سابقاً قال له في قاعة العزاء وعلى مسمع المعزّين "أنتم شركاء الناتو في قتل معمر القذّافي، والشعب الليبي لن يغفر لكم أو يسامحكم". وإذ نسوق هذه الواقعة فبهدف الرد على خالد مشعل الذي ردّد كثيراً، ومؤخراً في بيروت "أن حماس رفضت الانخراط إلى جانب الأنظمة ضد الشعوب كما في سوريا، وترفض التدخل ضد الأنظمة لصالح الشعوب". ربما تمنى مشعل أن يكون موقفه وحركة حماس بعدم الانخراط، لكن وقائع الحرب السورية والحرب الليبية أثبتت وتثبت تورطهم حتى النخاع ضد النظامين، وهذا ما جعل حماس تخسر الكثير من وهجها بسبب تقديمها الأجندة الإخوانية على القضية الفلسطينية.
الغدر لا الوفاء، سمة سلوك مشعل وحركة حماس مع القذافي، وهو سلوك متناسل من غدر آخر مارسه مرشد إيران علي خامنئي ضد حليفهما السابق معمر القذّافي وعلى هذا النحو غزل نصرالله منواله. لكن ما جمع إيران ونصرالله ومشعل حماس في ليبيا فرقهم في سوريا. ويبدو أنه يفرقهم حتى في فلسطين التي اختطفها الخطاب الإيراني المنفوخ بمعزوفة "تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف" قابلها تهديدات إسرائيل بتدمير إيران، ما عكس حجم النفاق التخادمي المضبوط الإيقاع بين الطرفين.
ويبدو أن السيد نصرالله وعلى خطى قادته في إيران، امتهن استعراض الخرائط، وإطلاق صليات الصواريخ الصوتية. وكلنا يتذكر أن تهديدات نصرالله بقصف حيفا وما بعد بعد حيفا والتي استنفدت أغراضها، باتت مثار سخرية حتى في بعض البيئات الرافضة للاحتلال الإسرائيلي.
بعد سنوات على إشهار معزوفة ما بعد حيفا، أتت معركة غزة الأخيرة نجدة لحي الشيخ جرّاح في القدس، لتثبت أن مبادرات ما بعد بعد حيفا هي بيد الفلسطينيين. الفلسطينيون الذين حققوا وحدهم قصب السبق في قصف تل أبيب ومطار بن غوريون وغيره من المدن والقواعد الإسرائيلية. إنها المعركة التي غيرت من توازن القوى مع إسرائيل بدون شك، كما أنها المعركة التي جوّفت كل خطاب نصرالله التعبوي ورمته أرضاً، وجعلته مجرد منصة صواريخ صوتية لا غير.
يومها توقف كثيرون عند شكر حماس لإيران. إنه الشكر الذي قوبل باستنكار كبير من أوساط عربية وإسلامية وازنة وواسعة، وهو الشكر الذي اضطر خالد مشعل إياه لبذل الكثير من الجهد بهدف تبريره، وتمكنه من القول لنظرائه وخصوصاً في المقاومة العراقية الأصلية وأيضاً بالأمس في بيروت، "إن شكر حماس لإيران محصور بدعمها لنا ضد إسرائيل، ولا يعني دعماً وتأييدا لإيران في ما تفعله بالبلاد العربية".
صحيح أن خالد مشعل بل وحركة حماس لم يصدروا أي بيان أو موقف حيال تصريحات قائد "مقر خاتم الأنبياء" في الحرس الثوري الجنرال غلام علي رشيد، الذي اعتبر حركة حماس أحد جيوش إيران الستة التي أسّسها قاسم سليماني للدفاع عن طهران. لكن موقف غلام رشيد هذا، تعبير صريح عن حقيقة نظرة دهاقنة طهران لحماس والجهاد ومن في حكمهم. إنها الأيرنة تدب على الأرض. أيرنة حماس هو ما تريده إيران. وأغلب الظن أن مشعل وحماس قد أبلغوا إيران رفضهم لهذا الموقف المهين الذي صوّرهم أشبه بمرتزقة أو بندقية للإيجار، حراجة الموقف دفعتهم إلى الصمت السياسي، أما الصمت الإعلامي فقد تكفل بيان خجول لحركة الجهاد بكسره دون أن يخدش حياء مطلق مسؤول إيراني.
إنها الأيرنة إذن، تلك التي تحاول إيران فرضها على حلفائها، بعد أتباعها. وهي الأيرنة التي تمكنت من بعض حماس وباتت تمتلك أكثر من جناح فيها، برز بعضها مؤخراً في محاولة تسفيهية يائسة لبعض الإعلام الذي نقل بعض مكنونات خالد مشعل خلال زيارته لبيروت.
مشكلة حزب الله مع حلفائه غير المتأيرنين ولو كانوا بوزن خالد مشعل، إنه وصل لمرحلة لم يعد يقبل فيها بأقل من الأيرنة الكاملة. لهذا كان لهاث الحزب وسعيه لتطويق وتجويف زيارة مشعل فاقعاً وغير مألوف في تعاطي الحزب حتى مع خصومه. ولهذا بدت محاولة التنكيل بمشعل من قبل بعض الأصوات التي تعكس موقف الحزب، بوصفه يشكل حائط الصدّ الأخير في منع أيرنة حماس وسقوطها كاملة في الحضن الإيراني.
مشكلة حزب الله، أنه لم يتعامل مع مشعل أقله وبالحد الأدنى كما يتعامل مع حليفه غير المختلف ايديولوجيا مع إسرائيل، في لحظة يرجح أن تتوسّع فيها مروحة تصنيفه تنظيما إرهابيا خصوصاً بعدما كشفه التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، والذي خلص إلى إظهار حزب الله بمثابة عدو كامل الأركان الإرهابية. وهو التظهير الذي قدم من خلاله التحالف العربي ترسانة ضخمة من الأدلة والقرائن التي ستدفع السعودية إلى التعامل مع الحزب كعدو، ما سيكون له الكثير من التداعيات والارتدادات العربية والإسلامية وخاصة الفلسطينية التي ستتعامل مع الموقف وفقاً لترجيحها الأمن القومي العربي على ما عداه.