عشية القمة العربية التي استضافتها نواكشوط عام 2016، ثارت ثائرة الموريتانيين على الوفد اللبناني الذي اختار الإقامة في الدار البيضاء وليس في البلد المضيف الذي لا يحمل مواصفات مطابقة بحسب تصريحات مهينة استشعرها الموريتانيون من الوزير وائل أبوفاعور الذي تحلّى بفضيلة الاعتذار الذي لم يطل ولم يخضع لحسابات كونية كالتي حصلت جراء تصريحات عبثية لوزير الاعلام المُستقيل جورج قرداحي، أو كتلك التي أفضت إلى استقالة وزير الخارجية السابق شربل وهبة واعتذاره عن تصريحات مهينة للبدو.
وبحكم متابعتي المهنية للشأن الموريتاني خصوصاً بعد الانقلاب على معاوية ولد الطايع والانقلابات التي أعقبته، وردتني سلسلة اتصالات موريتانية غاضبة بينها اتصال من الإعلامي الصديق محمد ولد ممين الذي استطال في شرح الجرح الذي تسبّبت به تصريحات أبو فاعور. وكان حديث مطوّل حول أهمية العمل على رتق الفتق الذي مسّ بمشاعر بلد المليون شاعر الذين انبرى بعضهم لتوثيق الواقعة بقصائد شعرية تطايرت أبياتها على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض الإذاعات المسموعة والمرئية الموريتانية التي وصلت صداها إلى بعض الإعلام اللبناني فضلا عن وسائل التواصل الاجتماعي.
بعيد انفجار مرفأ بيروت الهيروشيمي وما خلفه من مجزرة بشرية إنسانية واقتصادية كشفت عن حجم الاهتراء في الدولة وبناها التحتية والفوقية الاقتصادية والمالية بفعل معادلة "غطّوا على سلاحنا، نغطّي على فسادكم" والتي تناسل منها معادلة جديدة اصطلح على تسميتها "ميليشيا المال والسلطة والسلاح" التي تطورت إلى "منظومة الفساد والنيترانيوم والكابتغون" المعادلة الحاكمة للبنان، ومع تقاطر قوافل المساعدات العربية والأجنبية إلى بيروت في محاولة لتضميد جراح اللبنانيين، هاتفني صديقي الموريتاني محمد ممين وسألني كيف يمكن لبلدي موريتانيا مساعدة لبنان؟
في تلك اللحظة استذكرت إهانة أبوفاعور فوراً، وتساءلت في سرّي أهي محاولة ردّ الإساءة بالإحسان؟ وقلت لصديقي انظروا إلى مساعدات الدول العربية واغزلوا على منوالها لو استطعتم. وبعد برهة صمت استرجعت فيها ما أعرفه عن ثروات موريتانيا الطبيعية، وتذكرت مناجم نواذيبو العملاقة، والثروة السمكية الهائلة، قلت لصديقي ممين أن طائرة محملة بالأسماك ستكون لافتة وغير مسبوقة بين المساعدات الوافدة إلى لبنان. سيّما وأنها ستذهب إلى الناس مباشرة ولن يستفيد منها لصوص الهيكل.
بألمعية الصحفي تلقّف صديقنا الموريتاني الفكرة، وطرحها على وزير الخارجية الموريتاني الذي تلقفها بدوره مع مسؤولين آخرين ثمّ تحوّلت إلى قرار رسمي اتخذه الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني. ووصلت الطائرة السمكية إلى مطار بيروت دون أن تحظى بالتغطية الإعلامية المناسبة، وأيضاً كلنا يذكر ما أثير حول شاي سريلنكا وسمك موريتانيا في بيروت.
إذ نورد ما تقدم، فهذه المرّة بهدف الإضاءة على الإعلامي الزميل محمد عبدالله ممين والأدوار التي أداها بحس وطني كبير لأجل بلاده موريتانيا، والذي يتعرض هذه الفترة لافتئات الشرطة عليه بعد ثلاثة عقود احترافية من العمل الإعلامي الإذاعي والتلفزي الموريتاني والعربي والأجنبي.
قصة الزميل ممين التي بدأت يوم 8 فبراير/شباط، سببها تدوينة نشرها على حسابه الفيسبوكي تضمنت شهادة لمصورَين يعملان معه، نقلا فيها تعرضهما للاعتداء من قبل شخص وصفوه بأنه قائد عصابة. الشرطة أصرّت أن الرجل قائد العصابة "مختل عقلياً"، وأن ما كتبه ممين "غير صحيح". لكن النائب العام تحدث عن تهمة "عدم الدقة" ثم أحال الإعلامي ممين إلى الغرفة الجزائية في محكمة الجنح في نواكشوط دون تحديد موعد لمحاكمته، وذلك بعد خضوعه للتحقيق لعدة أيام من قبل الشرطة.
وفي تسجيل مصوّر نشره على حسابه في فيسبوك ثم انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، قال ممين إنه "سعى إلى لفت أنظار السلطة إلى قضية زميلَيه من باب التنوير ونقل الأخبار حرفياً من أشخاص يثق فيهم.. وأن لديه تسجيلات من الشهود وأن الشهود نقلوا للشرطة الشهادات نفسها من دون تحريف".
ضغوط كبيرة تفرض من قبل الشرطة والقضاء وجهات رسمية أخرى على ممين بهدف دفعه إلى الاعتذار والتراجع عن مضمون التدوينة كمدخل لتجاوز القضية وطي الملف، لكن ممين يرفض الاعتذار مستنداً إلى ما يعتبره ممارسة واجبه المهني والأخلاقي في نقل الخبر والمعلومة، وحماية أمن زملائه.
هذه الواقعة باتت قضية حريات ورأي عام، خصوصا بعد التفاعل الكبير والواسع الذي تحظى به من قبل نخب سياسية وإعلامية وثقافية موريتانية رفعت صوتها مستنكرة ما يتعرض له ممين، وذلك بالنظر إلى الحرفية والمهنية وأخلاقيات المهنة الذي لطالما ميّزوا ممين عن كثير من زملائه، ما أكسب الرجل سمعة رفيعة معروفة لدى الجسم الإعلامي العربي والأوروبي، كما أكسبه لقب "ابن بطوطة الموريتاني" وذلك لمرابضته في ميادين الأحاديث الساخنة من العراق إلى ليبيا وسوريا ولبنان والصومال ودارفور وأفغانستان، فضلاً عن تزاملنا في تغطية الكثير من القمم والمؤتمرات العربية والإفريقية.
واجب الزمالة والرفقة والصداقة مع الصديق ممين، أقانيم تفرض علينا واجب التضامن مع ممين، والتأكيد بأن قضيته باتت قضية رأي عام، وليست ملفاً أمنياً. واجب، يفرض علينا التوجه مباشرة إلى أب الموريتانيين جميعاً الرئيس محمد ولد الغزواني ودعوته بما يتمتع به من حكمة وحنكة وكياسة ودقة تقدير للموقف، المبادرة السامية إلى وضع يده على هذا الملف وإخراجه من العبث الذي يجري ومعالجته بالمحبة، وليس بتكسير الأقلام ولي عنق الكلمة، وكلنا ثقة أن ولد الشيخ الغزواني سيكون في الموعد وعند حسن الظن به.
وفيما لو أن صدر ساسة وشرطة موريتانيا قد ضاق بولد ممين، فليعلموا أن كل بلاد العرب من طنجة إلى بيروت تحتضنه وتحتاجه.