بقلم - حسام عيتاني
تتردد أصداء خطاب الكراهية من الهند إلى فرنسا ويسقط ضحايا العنف العرقي والطائفي في إثيوبيا وميانمار. يُطرد مئات آلاف الروهينغا والإيغور من ديارهم ويلاحَق أبناء الأمهرا ومسلمو الهند بسبب الاختلاف في الدين واللغة واللون. تبني أوهام النقاء والأصول المتفوقة «عالماً جديداً شجاعاً»، على حطام التعدد والاختلاف والسلام.
وصف آلدوس هاكسلي في روايته «عالم جديد شجاع» (1932) المجتمع البشري في المستقبل وصفاً سوداوياً يعيش فيه الناس موزعين على مجموعات منفصلة بحسب مستوى ذكاء محدد مسبقاً من قبل قادة الجماعة. ويمضي المحظوظون حياتهم يتمتعون بما يقدم لهم من دون قدرة على التفكير والابتكار. الفئات الدنيا مقدر لها العمل الجسدي المرهق والخضوع للعبودية وهي محرومة من القدرة على التجمع أو التمرد لانخفاض إدراكها لما تعانيه ولما تتعرض له من استغلال واحتقار. انفصال كامل عن البيئة والأرض وحياة ضمن مجمع مقفل يكون الانقسام والسيطرة فيه على الضعفاء هما القاعدة وسط منظومة أخلاقية لا علاقة لها بما يعرفه ويُقرّه البشر الحاليون. تحقيق السعادة من خلال العلم هدف المجتمع الجديد. لكنها سعادة تقتل كل قدرة على الإبداع والتحرر.
في الهند يُشكك الداعون إلى دولة محض هندوسية في معنى النظام العلماني في بلدهم ما دامت باكستان تعلن نفسها بلداً إسلامياً، لا مكان للمسلمين - تبعاً لذلك - في الهند وليرحلوا إلى غير مكان. إريك زيمور المرشح اليميني المتطرف إلى الانتخابات الرئاسية الفرنسية يتعهد بحظر كل جماعة إسلامية في حال فوزه وبإعادة اللاجئين إلى البلاد التي جاءوا منها. يشبه الموقف اليميني الفرنسي ذاك الذي تتخذه قوى متزايدة الاتساع في تركيا والمطالبة بإعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا سيان كان مصيرهم الوقوع في أيدي أجهزة النظام السوري أو بين براثن جماعات «القاعدة» وما يدخل في بابها. القول ذاته يقوله لبنانيون عن السوريين والفلسطينيين. وأميركيون عن مهاجرين من أميركا الوسطى. وأوروبيون عن أفارقة وأفغان.
تحول اللاجئون إلى العنوان الأكبر في خطاب الكراهية الرائج، بيد أنهم ليسوا الوحيدين في التعرض لغضب الجموع الهائجة. فكل مختلف مُدان باختلافه في عالم اليوم. وعليه العودة إلى «بلده» الذي غالباً ما يكون قد دُمِّر ونُهب وباتت إمكانات الحياة فيه مستحيلة.
وإذا كانت «كل فاشية تنطوي على ثورة مُجهضة»، فالسؤال هنا عن الفشل الذي أطلق الموجة الحالية من الكراهية والعنف والتمييز في بلدان يُفترض أنها قطعت شوطاً في علاج آثام الماضي سواء بسواء مع بلدان ما زال منطق الجماعة المعصومة والفرقة الناجية قابلاً للاستغلال والتوظيف من قبل النُخب السياسية. يستوي هنا اشتراكيو الدنمارك الذين يطاردون اللاجئين ويحولون حياتهم إلى ذل يومي مع قوميي «بهاراتيا جاناتا» الذين يغضون النظر عن الاعتداءات المتفاقمة على المسلمين الهنود. وكلٌ يَعِد جماعته ببناء «عالم جديد شجاع» لتعيش في سعادة ووفرة حيث يحتل «الآخرون» المراتب السفلى التي يستحقون ومن دون أن يظهروا حتى في المشهد العام لئلا تتلوث أفراح الأعراق والطبقات المختارة.
الغالب على الظن أن الفشل الواقف وراء الموجة الحالية من الكراهية الآخذة في التمدد هو إخفاق وعود نيوليبرالية ما بعد الحرب الباردة والأوهام التي بُنيت على عولمة رأس المال وتسيّده على الحياة الاقتصادية، لتلحق بانهيار وعود «الاشتراكية العلمية» ونماذجها السوفياتية والماوية والكمبودية. وإذا عادت الذاكرة إلى أوائل تسعينات القرن الماضي ستجد مشاريع الرغد المقبل القائم على انفتاح الأسواق والتعاملات المالية التي لا تقف أمامها حواجز أو حدود ودول. لكن التاريخ كان له رأي آخر. فاصطدمت تلك المشاريع بجدار الواقع الصلب الذي رسم إطار ما يمكن السير فيه والخط الفاصل عن أوهام تعميم الرفاه عبر آليات صُممت خصيصاً لتأمين الثروة لفئة ضئيلة على حساب الأكثرية. وذلك قبل حلول وباء «كوفيد - 19» ليضيف كارثة غير منتظرة عرّت أنظمة الحماية وأظهرت هزالها.
لم يكن من بدٍ والحال على ما تقدم من اللجوء إلى «سحر البيان» وإغراق شظف العيش اليومي بكلام لا ينتهي في كراهية الآخر الذي استولى على فرص العمل وأطاح النقاء الديني وقلل احترام الطقوس المقدسة.
وكانت هانا أرنت قد حذرت يوماً من «أن منهج الحملة الدعائية التوتاليتارية الذي يجري بمقتضاه التنبؤ بمصير الأعداء وإبادتهم... لا يعمل تماماً إلا حينما تتسلم الحركات السلطة. ويصير من العبث مناقشة تنبؤات الديكتاتور، بمقدار عبث ما يتبدى النقاش مع قاتل حول ما إذا كانت ضحيته الجديدة قد ماتت أو لا لأن القاتل إذ يقتل ضحيته، يسعه أن يوفر إثباتاً سريعاً حول صدقية أقواله... وقبل أن يتسلم قادة الجماهير السلطة من أجل أن يلووا عنق الحقيقة لصالح مزاعمهم، تتبدى حملتهم الدعائية منطبعة باحتقار جذري حيال الوقائع في حد ذاتها. ذلك أن الوقائع، بنظرهم، مرهونة كلياً بسلطة من يسعه صنعها».